والثانى : أن ذكر خيراته لحاجة تقع للمذكور له تكون فى مثلها ، لا تكون فى الآخرة خاصة ، والله ـ تعالى ـ يتعالى عن الحاجة عما بالعباد ؛ لذلك اختلفا. والله أعلم.
فإن قال لنا قائل : إن جميع ما ذكر فى هذه الآية ـ من أولها إلى آخرها ـ كلها دعوى ، فما الدليل على تلك الدعوى؟
قيل : يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ..). الآية [البقرة : ١٦٤].
والثانى : من أنكر الصانع فيتكلم أولا معه فى حدث العالم ، وحاجته إلى محدث ، فإذا ثبت حدث العالم ، فحينئذ يتكلم فى إثبات الصانع ووحدانيته. وبالله التوفيق.
وفى قوله تعالى : (واحد) ، ليس من حيث العدد ؛ لأن كل ذى عدد يحتمل الزيادة والنقصان ، ويحتمل الطول والعرض ، ويحتمل القصر والكسر ، ولكن يقال : ذلك (واحد) من حيث العظمة والجلال والرفعة ، كما يقال : فلان واحد زمانه ، وواحد قومه ، يعنون به رفعته وجلالته فى قومه وسلطانه عليهم ، جائز القول ، فهم لا يعنون من جهة العدد ؛ لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد. والله أعلم.
وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).
هذا على المعتزلة ؛ لأنهم لا يصفونه بالعلم ، وقد أخبر أن له العلم.
ثم احتمل : (عِلْمِهِ) ، علم الغيب.
وقال آخرون : علم الأشياء كلها. لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله من ذلك ، كقول الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢].
ومن قال : علم الغيب ، فهو الذى قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].
وقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).
قال بعضهم : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، وسع علمه. وهو قول ابن عباس (١) ، رضى الله تعالى عنه.
وقال آخرون : (كُرْسِيُّهُ) ، قدرته ، وهو وصف بالقدرة والعظمة.
وقيل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) ، والكرسى هو أصل الشىء ، يقال : كرسى كذا ، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق. وذلك وصف بالعظمة والقوة.
__________________
(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٢٤٠) ، ولم ينسبه لأحد.