وقد بيّنا الحق في أمر المتشابه ، وما يجب في ذلك من القول ، وبالله العصمة والنجاة (١).
وقوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) : يحتمل وجهين :
يحتمل أم الكتاب ، أي : أصل الكتاب (٢).
ويحتمل أم الكتاب ، أي : المتقدم على غيرها ؛ وعلى هذا يخرّج : (أُمَّ الْقُرى) [الأنعام : ٩٢ ـ الشورى : ٧] ، أعني : مكة (٣) ؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى ، ويحتمل هي أصل القرى ؛ كما سمى «فاتحة الكتاب» : «أم القرآن» ؛ لأنها أصل ؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور ، والله أعلم.
__________________
(١) حقيقة ذلك أن آيات الكتاب العزيز عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أقسام :
الأول : متشابه من حيث اللفظ فقط. الثاني : من حيث المعنى فقط. الثالث : من جهتهما معا. ثم المتشابه من حيث اللفظ نوعان : أحدهما : يرجع إلى المفردات إما من جهة الغرابة من قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] وكقوله : (يَزِفُّونَ)[الصافات : ٩٤] ، وإما من جهة الاشتراك كاليد والعين في قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)[المائدة : ٦٤](تَجْرِي بِأَعْيُنِنا)[القمر : ١٤](عَلى عَيْنِي)[طه : ٣٩]. والثاني : يرجع إلى التركيبات ، وهي الجمل. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : لاختصار الكلام كقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) إلى قوله : (وَرُباعَ)[النساء : ٣]. وثانيها : عكسه ، وهو بسط الكلام ، كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى : ١١] ، إذ لو قيل : ليس مثله شيء. لكان أظهر للسامع. ثالثها : لنظم الكلام ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)[الكهف : ١].
والقسم الثاني : من حيث المعنى فقط ، وذلك في أوصاف الباري تعالى ، وأوصاف القيامة. فإن تلك الصفات لا تتصور لنا ؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه إذ لم يكن من جنس ما نحسه.
والقسم الثالث : وهو المتشابه من جهتهما معا ينقسم إلى خمسة أقسام : الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة : ٥]. الثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)[النساء : ٣]. الثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)[آل عمران : ١٠٢].
الرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها كقوله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ ..). الآية [البقرة : ١٨٩] ، وقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)[التوبة : ٣٧] فإن من لا يعرف عادة أهل الجاهلية في ذلك يتعذر عليه تفسير هذه الآية الكريمة.
الخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشروط النكاح والصلاة. ويعلم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن أحد هذه الأقسام.
ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦).
(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٦) ، رقم (٨٥).
(٣) مكة : علم على جميع البلدة ، وهي البلدة المعروفة المعظمة المحجوجة ، غير مصروفة ، للعلمية والتأنيث ، وقد سماها الله ـ تعالى ـ في القرآن أربعة أسماء : بكة ، البلد الأمين ، والبلدة ، والقرية ، وأم القرى.
ينظر : المطلع على أبواب المقنع لأبي الفتح البعلي الحنبلي (١٨٦).