ثم من الناس من احتج بجواز القرعة (١) والعمل بها ـ بهذه الآية (٢) ؛ حيث ضمّها زكريا ـ مريم ـ إلى نفسه ، لما خرجت القرعة له ؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره ؛ لوجهين :
لحق الوحي.
والثاني : لظهور إعلام في نفس القرعة ؛ ما يعلم أنه كان بالله ذلك لا بنفسه ؛ كارتفاع القلم على الماء ، ومثل ذلك لا يكون للقلم ، والمحق من المبطل ، وفيما بين سائر الخلق ؛ لدفعهم التهم ؛ فهي لا تدفع أبدا.
ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك ، أو علموا ذلك بالوحي ، فليس اليوم وحي ؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم ، والله أعلم.
أو كان ذلك آية ، والآية لا يقاس (٣) عليها غيرها ؛ نحو : قبول قول قتيل بني إسرائيل ـ
__________________
(١) قرع يقرع : من باب قطع يقطع ، وجمع يجمع ، ومعناه : الطرق والضرب ؛ وذلك لأن إجراء القرعة كان في المعتاد يجرى بطرق السهام أو ما يشبهها وضربها ليخرج السهم الفائز منها بالقرعة ، وقد تسمى بالسهمة عند بعض الفقهاء مثل ابن رشد.
ينظر : القاموس المحيط (ص : ٦٧٤ ، ٦٧٥) (قرع) ، أساس البلاغة للزمخشري (٢ / ٢٤٥) (قرع) ، بداية المجتهد لابن رشد (٢ / ٢٦٧).
أما القرعة كدليل إثبات فقد نفاها أبو حنيفة ومالك وأخذ بها الإمام الشافعي وأحمد وابن حزم.
ينظر : فتح القدير لابن الهمام (٢ / ٥١٩) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (٢ / ٣٤٣) ، الأم للشافعي (٥ / ٩٩) ، المهذب للشيرازي (٢ / ٣٠٨) ، كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي (٤ / ٢٢٩) ، والمحلى لابن حزم الظاهري (٥ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧).
(٢) وواضح أن هذا الاستدلال بهذه الآية المباركة قائم على مبدأ أصولي مهم ، وهو : أن شريعة من قبلنا تعتبر شريعة لنا ما لم يرد في شريعتنا ما ينسخها ، ولم يرد عندنا في الإسلام نهي صريح صحيح عن القرعة فتبقى مشروعيتها في الشرائع السابقة قائمة لدينا. وقد أشار الله عزوجل ـ إلى هؤلاء الرسل السابقين ، فقال : ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) [الأنعام : ٩٠] ، ولكن هذا المبدأ الأصولي لم يسلم من مخالفة بعض العلماء له وجدالهم فيه ، لكننا نجد الدليل بل الأدلة الواضحة القوية على مشروعية الاقتراع والقرعة في صحيح السنة النبوية ، بل إن الإمام البخاري قد عقد بابا خاصّا ، بعنوان : باب القرعة في المشكلات. راجع : البخاري (٥ / ٦٢٩ ـ مع فتح الباري).
(٣) القياس لغة : هو التقدير والمساواة.
واصطلاحا : إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت.
واتفق العلماء على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية ، واختلفوا في الشرعية ، فذهب الجمهور إلى وجوب العمل بالقياس شرعا ، وذهب الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن العقل قد دل على ذلك. وقال القاشاني والنهرواني : يجب العمل به في صورتين : إحداهما : أن تكون علة الأصل منصوصة إما بصريح اللفظ أو بالإيماء إليها. والثانية : أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل كقياس الضرب على التأفف.
وأنكر داود الظاهري التعبد به شرعا ، وإن كان جائزا عقلا ، وذهب إلى أنه يستحيل التعبد ـ