يحتمل توفّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر ؛ تكذيبا لمن ظن أنه الله ، أو ابنه ، لا يحتمل أن يموت ، وقد ألزمهم هذا أيضا بوجهين ظاهرين ـ وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره. ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه ، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة ـ كفاية لمن يعقل الحقائق ، وبلغة لمن تأمّل الأشياء عبرا.
أحدهما : بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٥] ، وقوله : (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [البقرة : ٨٧] حتى ينطق به لسان كل منهم ، ومعلوم إحالة ابن بشر إلها أو ولدا لإله ؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه ، وكذلك قوله في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] إلى آخر ما ذكر ، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم ـ عليهالسلام (١) ـ الذي هو الأصل ، هو المقدم ، وهو الذي لا يعرف له والدان أحق أو هو ؛ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير ، أو ذلك وصف الأولاد ، والله أعلم.
والثاني : (يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] : فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه ، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية. ثم في ذلك حاجة (٢) إلى الخلاء ، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته ، وبالله التوفيق.
والثالث : على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه ، ورفعه إلى ما به شرفه ، وتطهيره مما كان يحسّ منهم من الكفر وأنواع الفساد ، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم ؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات ، وعلى مخالفيه في قطع العذر. ولا قوة إلا بالله.
وفي الدعاء إلى المباهلة (٣) دلالة ظهور التعنت والعناد ، وفي تخلفهم عن ذلك دليل
__________________
(١) في ب : صلىاللهعليهوسلم.
(٢) في ب : حاجته.
(٣) ينظر : الآية (٦١) من سورة آل عمران وتفسيرها.
والمباهلة : الملاعنة : وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا. ينظر : النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (١ / ١٦٧).
وأخرج البخاري (٤٣٨٠) عن حذيفة قال : جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريدان أن يلاعناه قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ؛ فو الله ، لئن كان نبيّا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال : «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف له أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» فلما قام قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا أمين هذه الأمة».
وقال الحافظ ابن حجر (٨ / ٤٢٩) : وفيها [أي : في تلك القصة] مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.