وقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين :
أحدهما : أنهم لا يرون لله أن يختص أحدا ـ بشيء فيه صلاح ـ غيره صرفه عن ذلك الغير ، بل إن فعل ذلك كان محابيا عندهم بخيلا ، بل في الابتداء لم يكن له ذلك ؛ وإنما يعطى بالاستحقاق ، وذلك حق يلزمه ، وقد ذكر بحرف الامتنان.
وعندهم ـ أيضا ـ : ليس له ألا يشاء أو لا يعطى ؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك ، بيد غيره إذ يلزم ذلك ، والله أعلم.
والثاني : أن الذي يحق عليه ـ أن يبذل كلا الأصلح في الدين ، وأنه إن قصر أحدا عن ذلك كان جائزا ، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره ؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد : يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء ، والله الموفق.
قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧٦)
وقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) :
والقنطار ما تقدم ذكره ، (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) :
وصف ـ جلّ وعزّ ـ أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة ، وبعضهم بالخيانة ، وليس المراد من الآية ـ والله أعلم ـ القنطار نفسه أو الدينار ، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة ، قلّت الخيانة أو عظمت ، وكذلك الأمانة ؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدينار إذا خان ، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير ، ولكن على التمثيل ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
__________________
ـ تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. بمعنى : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بمعنى : أو أن يحاجوكم عند ربكم ... أحد بإيمانكم ؛ لأنكم أكرم على الله بما فضلكم به عليهم ؛ فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) سوى قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) لم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم. (قُلْ) يا محمد للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتباعها من اليهود : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) ، إن التوفيق توفيق الله ، والبيان بيانه ، إن الفضل بيده يؤتيه من يشاء لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها ؛ لأنه أصحها معنى وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب ، وأشدها اتساقا على نظم الكلام وسياقه ، وما عدا ذلك من القول فانتزاع من الصحة على استكراه شديد للكلام. ينظر : جامع البيان (٦ / ٥١٥ ـ ٥١٦).