البشرية الكتاب ولا النبوة ؛ إنما يؤتى النفس البسيطة ، وهي الروحانية ، ليأتى تخيل في قلوب الأنبياء ، ويؤيدهم حتى يؤلفوا ؛ كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥]
فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف ، لا يقدر غير الرسل على ذلك ، ثم الناس يأخذون ذلك منهم ؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم ؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) وكذلك قال عيسى ـ عليهالسلام ـ في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).
وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء ـ عليهمالسلام ـ عن الكفر بقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) ، وخاصّة في عصمة رسولنا ـ محمد صلىاللهعليهوسلم ـ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] ، وقال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) [الأحزاب : ٥٨] : شرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به الأذى ، ولم يشترط في النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ دل أنه لا يكون منه اكتساب ما يستوجب به الأذى ، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَلكِنْ كُونُوا) :
معناه ، أي : ولكن يقول لهم : كونوا ربّانيين ؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم :
(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).
ثم اختلف في (رَبَّانِيِّينَ) قيل : متعبدين لله بالذي يعلّمون الكتاب ، وبالذي يدرسونه.
وقيل : الربانيون (١) : العلماء الحكماء (٢). وقيل : حكماء علماء. وقيل : علماء فقهاء. وهو واحد (٣).
__________________
(١) قال سيبويه : الرباني : المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته ، ينظر : تفسير الرازي (٨ / ٩٨).
(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه عنه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٢ / ٨٣).
(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه عنه ابن جرير الطبري (٦ / ٥٤٢) برقم (٧٣١٣) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٣٦٦) (٨٥٩) ، وقال الطبري : وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني ، وأن الرباني المنسوب إلى «الربان» الذي يربّ الناس ، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ، ويقوم بها ... فالربانيون إذن هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا ؛ ولذلك قال مجاهد : «وهم فوق الأحبار» ؛ لأن الأخبار هم العلماء ، والرباني : الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير ـ