وألبانها ، وكان من أحب الطعام إليه ، إن ثبت ما ذكر في القصّة : أن يعقوب ـ عليهالسلام ـ أقبل يريد بيت المقدس ، فلقيه ملك ، فظن يعقوب أنه لص ؛ فعالجه (١) يصارعه حتى أضاء له الفجر ، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب ، فتهيج عليه عرق النسا (٢) ؛ فكان يبيت الليل ساهرا من وجعه ، فأقسم : لئن شفاه الله ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه ؛ فشفاه الله من ذلك ؛ فحرم لحم الإبل وألبانها ؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه (٣).
فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من الله ـ تعالى ـ والأمر منه.
ثم إن اليهود قالوا : إنما كان تحريم ذلك من الله في التوراة ؛ فأمر الله ـ تعالى ـ نبيّه أن قل لهم : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ): أن ذلك التحريم من الله في التوراة (٤).
ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ..). الآية [النساء : ١٦٠] ؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم ، فدعوا بإحضار التوراة ؛ ليظهر كذبهم ، فأبوا ذلك (٥).
__________________
(١) يقال : عالجه فعلجه علجا : إذا زاوله فغلبه فيها ، أي : في المعالجة. الوسيط (٢ / ٦٢٠) (علج).
(٢) النسا : العصب الوركي ، وهو عصب يمتد من الورك إلى الكعب ، مثناه : نسوان ، ونسيان ، والجمع : أنساء. ينظر : الوسيط (٢ / ٩٢٠) (نسا).
(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٢ / ٨٧) وجعله من قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. والذي حرّمه يعقوب على نفسه في هذه القصة العروق.
أما تحريم لحوم الإبل وألبانها ففي حديث آخر : فعن ابن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمهن إلا نبيّ فكان فيما سألوه : أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال : فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليهالسلام ، مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا : لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحبّ الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل ،. وأحب الشراب إليه ألبانها. فقالوا : اللهم نعم.
أخرجه أحمد (١ / ٢٧٣ ، ٢٧٨) ، والترمذي (٣١١٧) ، والحاكم (٢ / ٢٩٢) ، والطبري (٤٧٢٠) من طرق عن ابن عباس.
(٤) ينظر : تفسير الرازي (٨ / ١٢٣) ، اللباب (٥ / ٣٩٤).
(٥) قال القرطبي : اختلف : هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى؟ والصحيح الأول ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أضاف التحريم إليه بقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما حَرَّمَ) [آل عمران : ٩٣] ، وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزمنا اتباعه ؛ لتقرير الله ـ سبحانه ـ إياه على ذلك ، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه ، كذلك يؤذن له ويجتهد ، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه. ولو لا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسوّر على التحليل والتحريم.
ينظر : تفسير القرطبي (٤ / ٨٧).