(وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) :
يحتمل قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ـ ما لو تأمّلوا لهداهم ؛ وذلك أن الله ـ عزوجل ـ خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع (١) ، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة ؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله ، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة ، فلو لا أن كان ذلك من آيات الله ولطفه ؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله.
ويحتمل قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) ـ ما ذكر : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، وذلك آياته ، والله أعلم.
وقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) : ظاهره فيمن يجنى (٢) ، ثم دخل الحرم آمن (٣) ؛ لأن من لم يجن فهو آمن أين دخل من الحرم وغيره ، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره.
وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يوافق هذا ، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إذا أصاب الرجل الحدّ (٤) في الحرم ، أقيم عليه ، وإن
__________________
(١) الريع : النماء والزيادة. ينظر : لسان العرب (٣ / ١٧٩٣) (ريع).
(٢) من الجناية ، وهي لغة : الذنب والجرم ، مصدر جنى ، واصطلاحا : كل فعل محظور يتضمن ضررا على النفس أو غيرها ، وهي في الشرع اسم لكل فعل محرم يحل بمال أو بنفس ، لكن الفقهاء خصوا لفظ الجناية بالأفعال التي تحل بالنفس والأطراف فقط ، وجعلوا ما يحل بالمال غصبا وسرقة وإتلافا.
ينظر : حاشية رد المحتار لابن عابدين (٥ / ٣٣٩).
(٣) لا خلاف بين الفقهاء في أن من دخل الحرم مقاتلا وبدأ القتال فيه ، يقاتل وذلك لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وكذلك من ارتكب في الحرم جريمة من الجرائم المنصوص عليها حدودا أو قصاصا فإنه يقتل فيه اتفاقا لاستخفافه بالحرم ، أما من وجب عليه حد أو قتل بقصاص أو رجم بالزنا وغيره فالتجأ إلى الحرم ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو مروي عن أبي حنيفة ، وعمر وابن عباس وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة ، وإسحاق بن راهويه والظاهرية وهو رواية عن أحمد : أنه آمن ما دام في الحرم لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧].
الثاني : وهو مروي أيضا عن أحمد وأبي حنيفة : إن كان قاتلا لم يقتل حتى يخرج من الحرم ، وإن كانت الجناية فيما دون النفس أقيم عليه الحد.
الثالث : وهو قول مالك والشافعى : أن الحدود تقام فيه ويستوفى القصاص لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ)[البقرة : ١٩١].
وانظر : أدلة مذاهب الفقهاء في حاشية ابن عابدين (٢ / ٢٥٦) ، بدائع الصنائع (٧ / ١١٤) ، تبيين الحقائق (٢ / ٧٠) ، مواهب الجليل للحطاب (٣ / ٢٠٣ ، ٢٠٤) ، وشرح المهذب للنووي (٧ / ٢١٥) ، إعلام الساجد للزركشي ص (١٦٤) ، الأحكام السلطانية للماوردي (١٩٣).
(٤) الحد ـ لغة ـ : هو المنع ، ومنه سمي البواب والسجان حدادا لمنع الأول من الدخول ، والثاني من ـ