وقال بعض الناس : إذا كان بينه وبين الحج بحر ، لم يلزمه الحج ؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة (١) ؛ فخالف ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الاستطاعة؟ فقال : «الزّاد والرّاحلة» (٢) ؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة ؛ لأن النبي ـ عليهالسلام ـ هو المبين عن الله ؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية ، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورا في التأخير ، ولا يأثم ـ إن شاء الله تعالى ـ إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل ، ولا يأثم في ذلك.
ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم (٣) ؛ لأن المرأة ـ وإن وجدت الزاد والراحلة ـ فإنها تحتاج إلى من يركبها وينزلها ، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها ، وهكذا العرف فيهن ، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة ، والله أعلم.
وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أعتق ـ لزمه حجة الإسلام (٤) ؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة ، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه
__________________
(١) مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يجب الحج في البحر إن غلبت فيه السلامة وإلا فلا وهذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه ، ومما جاء في هذه المسألة من الأحاديث حديث بن عمرو بن العاص أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يركبن أحد بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» رواه أبو داود والبيهقي وآخرون ، قال البيهقي وغيره : قال البخاري : هذا الحديث ليس بصحيح ، ورواه البيهقي من طرق عن ابن عمرو موقوفا والله أعلم. انظر : المجموع للنووي ص (٧ / ٦٦ ـ ٦٧).
(٢) تقدم تخريجه قريبا.
(٣) اتفق الفقهاء على أن المرأة يلزمها الحج إن استطاعت واستطاعتها كاستطاعة الرجل ، واختلفوا في اشتراط المحرم لها فشرطه أبو حنيفة لوجوب الحج عليها إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل. وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها ويحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات.
انظر تفصيل مذاهب الفقهاء وأدلتهم في : الهداية للمرغيناني (١ / ١٣٥) ، بدائع الصنائع للكاساني (٢ / ١٢٣) ، والذخيرة للقرافي (٣ / ١٧٩) ، الأم للشافعي (٥ / ٣٨) ، شرح صحيح مسلم للنووي (٥ / ١١٧) ، الشرح الكبير للرافعي (٣ / ٢٩١) ، الفروع لابن مفلح (٣ / ٢٣٤) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (٣ / ٣٩٧).
(٤) العبد المملوك لا يجب عليه الحج ؛ إذ إنه مستغرق في خدمة سيده ؛ ولأن الاستطاعة شرط ولا تتحقق إلا بملك الزاد والراحلة والعبد لا يتملك شيئا ، فلو حج المملوك ولو بإذن سيده صح حجه وكان تطوعا لا يسقط به الفرض ويأثم إذا لم يأذن له سيده بذلك وعليه أن يحج إذا أعتق ؛ لخبر البيهقي في السنن الكبرى (٥ / ١٧٩): «أيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى».