ثم السّبب الذي به يستعان على التقوى ثلاثة :
أحدها : أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته عليه في كل أحواله ؛ فيتقى مخالفته بالهيبة والإجلال.
والثاني : أن يذكر عظم (١) منّته عليه ، ونعمه عنده ، وأياديه التي فيها يتقلب ، وبها يتمتع ؛ فيتقيه حياء منه.
والثالث : أن يذكر نفسه عظم (٢) نقمته الموعودة ، وعذابه المعد لأهل الخلاف له ؛ فيتقيه إشفاقا على نفسه ، والله الموفق.
وجملة ذلك : أن من تأمل ما إليه مرجعه ، والذي منه بدؤه وما فيه متقلبه ، من أول أحواله إلى منتهي آجاله ، حتى صيّر ذلك كله كالعيان لقلبه ـ سهل عليه وجه التقوى ؛ لما عند ذلك تذهب شهواته ، وتضمحل أمانيه ، والله الموفق.
قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(١٣٦)
وقوله : ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ).
قيل : السرّاء : الرخاء ، والضراء : الشدة (٣).
وقيل : السراء : السعة ، والضراء : الضيق (٤) ؛ وهو واحد.
وقيل : السراء : ما يسرهم الإنفاق ؛ من نحو الولد وغيره ، يسرّه الإنفاق عليه ، والأجنبي يضره (٥).
وعلى تأويل الأول : أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة ـ أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر ، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح ، والله أعلم.
والسبب الذي ييسّر عليه الأمر وجهان :
__________________
(١) في ب : عظيم.
(٢) في ب : عظيم.
(٣) قاله سعيد بن جبير أخرجه عنه ابن أبي حاتم (٢ / ٥٤٨) (١٤٣١ ، ١٤٣٤).
(٤) قاله ابن عباس ولفظه «في العسر واليسر» ، أخرجه عنه الطبري (٧ / ٢١٤) (٧٨٣٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٥٤٧) (١٤٣٠).
(٥) ذكره الفخر الرازي في تفسيره (٩ / ٧).