جميعا ، والله أعلم.
قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)
وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) :
فيه دلائل :
أحدها : دليل إثبات الرسالة ؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدا ، ولا تدوم ، ولا فيه آثار فنائها وموتها ، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت ، والتسليم له ، والإقرار منهم أن كل نفس تموت ـ يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي ، والله أعلم.
ثم إن كل حي يتلذذ بحياته ، وحبّب ذلك إليه ، ويتكرّه الموت ويبغضه ؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع ، ولكن كان بغيره ؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة ، ويتكره بالموت ويتنغص به ؛ إذ لو كان به : لكان يختار ما يتلذذ به ، ويدفع ما يتكره به ؛ فدلّ أن غيرا فعل ذلك وخلق ؛ لما ذكر : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الآية [الملك : ٢] ؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع.
وأيضا : أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة ، التي من طبعها التنافر ـ لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع ؛ دل أن له جامعا. وأيضا : إن كان العالم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كلّ لنفسه أحوالا : أحسن الأحوال وألذها ؛ فيبطل به الشرور والقبائح ؛ فدلّ وجود ذلك على كونه بغيره. ثم فيه أن ذلك الغير ـ الذي كان به العالم ـ واحد لا عدد (١) ؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة : لما جمع هذا فرّق الآخر ، وما أثبت هذا نفي الآخر ، وفي ذلك فساد الرّبوبية ؛ فدلّ وجوده على ما ذكرنا : أنه واحد لا عدد ؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره ، مع ما كان الأمر المعتاد بين الملوك في الشاهد : أن من فعل هذا نقض الآخر ، وما رام هذا إيجاده يريد الآخر إعدامه ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه ؛ وفي ذلك تناقض وتناف ؛ فدلّ الوجود على أن الذي به كان ـ واحد لا عدد ، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم ؛ لأنه يدلّ على العجز والجهل : أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح ، والعاجز والجاهل لا يصلح أن يكون إلها وربّا (٢) ، وبالله التوفيق.
__________________
(١) في ب : عدة.
(٢) في ب : ربا.