فإن أحصرتم : عن الحج ، فأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدى ؛ إذ الإحصار (١) نفسه لا يوجب الهدى ، لكنه إذا أراد الخروج منه يخرج بهدى (٢) ؛ وعلى ذلك يخرج
__________________
(١) من معانى الإحصار فى اللغة : المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، وهو المعنى الشرعى أيضا ، على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقق به الإحصار.
وقد استعمل الفقهاء مادة (حصر) بالمعنى اللغوى فى كتبهم استعمالا كثيرا ، ومن أمثلة ذلك : قول صاحب «تنوير الأبصار» وشارحه فى (الدر المختار): (والمحصور فاقد الماء والتراب الطهورين ، بأن حبس فى مكان نجس ، ولا يمكنه إخراج مطهر ، وكذا العاجز عنهما لمرض ـ يؤخر الصلاة عند أبى حنيفة ، وقالا : يتشبه بالمصلين وجوبا ، فيركع ويسجد إن وجد مكانا يابسا ، وإلا يومئ قائما ثم يعيد). ومنه أيضا قول صاحب (تنوير الأبصار): (وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض). وقال أبو إسحاق (الشيرازى): (ويجوز أن يصلى بتيمم واحد ما شاء من النوافل ؛ لأنها غير محصورة ، فخف أمرها). إلا أنهم غلبوا استعمال هذه المادة (حصر) ، ومشتقاتها فى باب الحج والعمرة للدلالة على منع المحرم من أركان النسك ؛ وذلك اتباعا للقرآن الكريم ، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتى أصبح (الإحصار) اصطلاحا فقهيا معروفا ومشهورا.
ويعرف الحنفية الإحصار بأنه : هو المنع من الوقوف بعرفة والطواف جميعهما بعد الإحرام بالحج الفرض ، والنفل ، وفى العمرة عن الطواف. وهذا التعريف لم يعترض عليه. ويعرفه المالكية بأنه : المنع من الوقوف والطواف معا أو المنع من أحدهما. ويمثل مذهب الشافعية هذا التعريف الذى أورده الرملى الشافعى فى (نهاية المحتاج) ، ونصه : (هو المنع من إتمام أركان الحج أو العمرة). وينطبق هذا التعريف للشافعية على مذهب الحنابلة فى الإحصار ؛ لأنهم يقولون بالإحصار عن أىّ من أركان الحج أو العمرة ، على تفصيل يسير فى كيفية التحلل لمن أحصر عن الوقوف دون الطواف.
واختلف الفقهاء فى المنع الذى يتحقق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدو والمنع بالمرض ونحوه من العلل ، أم يختص بالحصر بالعدو؟ فقال الحنفية : الإحصار يتحقق بالعدو ، وغيره : كالمرض ، وهلاك النفقة ، وموت محرم المرأة أو زوجها فى الطريق ، ويتحقق الإحصار بكل حابس يحبسه ـ يعنى المحرم ـ عن المضى فى موجب الإحرام. وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو قول ابن مسعود ، وابن الزبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، والنخعى ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، وسفيان الثورى ، وأبى ثور. ومذهب المالكية : أن الحصر يتحقق بالعدو ، والفتنة ، والحبس ظلما. كذلك هو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة ، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان ، كمنع الزوج زوجته عن المتابعة.
واتفقت المذاهب الثلاثة على أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدو ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه ـ أنه لا يجوز له التحلل بذلك. لكن من اشترط التحلل إذا حبسه حابس له حكم خاص عند الشافعية والحنابلة. وهذا القول ينفى تحقق الإحصار بالمرض ونحوه من علة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وطاوس والزهرى وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم.
ينظر : نهاية المحتاج (٢ / ٤٧٣) ، تحفة المحتاج (٤ / ٢٠٠) ، فتح القدير (٢ / ٢٩٥).
(٢) الهدى : هو ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره. لكن المراد هنا وفى أبحاث الحج خاصة : ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصة. ـ