ثم اختلف أهل العلم فى الذبح : أين يذبح؟
قال أصحابنا ـ رضى الله تعالى عنهم ـ : لا يجوز أن يذبح الفدية إلا بمكة (١).
وأما الصدقة والصوم فإنه يأتى به حيث شاء.
وذلك عندهم بمنزلة هدى المتعة ؛ لأن هدى المتعة إنما وجب بجمعه بين الحج والعمرة فى سفر واحد ؛ ولأنه لو شاء أن يفرد لكل واحد منهما سفرا فعل ، فبأخذه بالرخصة لزمه دم.
وكذلك دم الفدية إنما وجب لأخذه بالرخصة فى حلق رأسه ، فصار سبيل الدمين سواء ، يجبان بمكة ، وكذلك دم الإحصار إنما وجب ؛ لأنه أخذ بالرخصة فى حلق رأسه فحل من إحرامه. ولا يجوز أن يذبح إلا بمكة. فدم الفدية أينما كان إنما وجب ؛ لأنه رخص له فى حلق مثل ذلك.
__________________
ـ وأحمد (٤ / ٢٤١ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣) ، وأبو داود (١ / ٥٧٤) كتاب المناسك ، باب فى الفدية (١٨٥٦ ، ١٨٥٧ ، ١٨٥٨ ، ١٨٥٩ ، ١٨٦٠) ، والنسائى (٥ / ١٩٤) كتاب المناسك ، باب فى المحرم يؤذيه القمل فى رأسه ، والترمذى (٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧) كتاب الحج ، باب ما جاء فى المحرم يحلق رأسه (٩٥٣).
(١) ذهب الشافعية والحنابلة فى رواية إلى أن المحصر يذبح الهدى حيث أحصر ، فإن كان فى الحرم ذبحه فى الحرم ، وإن كان فى غيره ذبحه فى مكانه. حتى لو كان فى غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه فى موضعه أجزأه على الأصح فى المذهبين. وذهب الحنفية ـ وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إلى أن ذبح هدى الإحصار مؤقت بالمكان ، وهو الحرم ، فإذا أراد المحصر أن يتحلل يجب عليه أن يبعث الهدى إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابة عنه فى الحرم ، أو يبعث ثمن الهدى ليشترى به الهدى ويذبح عنه فى الحرم. ثم لا يحل ببعث الهدى ولا بوصوله إلى الحرم ، حتى يذبح فى الحرم ، ولو ذبح فى غير الحرم لم يتحلل من الإحرام ، بل هو محرم على حاله. ويتواعد مع من يبعث معه الهدى على وقت يذبح فيه ليتحلل بعده. وإذا تبين للمحصر أن الهدى ذبح فى غير الحرم فلا يجزئ. وفى رواية أخرى عن أحمد : أنه إن قدر على الذبح فى أطراف الحرم ففيه وجهان.
وقد استدل الشافعية والحنابلة بفعل النبى صلىاللهعليهوسلم فإنه نحر هديه فى الحديبية حين أحصر ، وهى من الحل ؛ بدليل قوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). واستدلوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التحلل من التسهيل ورفع الحرج ، كما قال فى المغنى : (لأن ذلك يفضى إلى تعذر الحل ؛ لتعذر وصول الهدى إلى الحرم) أى : وإذا كان كذلك دل على ضعف هذا الاشتراط. واستدل الحنفية على توقيت ذبح الهدى بالحرم بقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين : الأول : التعبير (الهدى). الثانى : الغاية فى قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وتفسير قوله : (مَحِلَّهُ) بأنه الحرم. واستدلوا بالقياس على دماء القربات ؛ لأن الإحصار دم قربة ، والإراقة لم تعرف قربة إلا فى زمان ، أو مكان ، فلا يقع قربة دونه. أى دون توقيت بزمان ولا مكان ، والزمان غير مطلوب ؛ فتعين التوقيت بالمكان.
ينظر : الهداية وشروحها (٢ / ٢٩٧) ، شرح الكنز (٢ / ٧٨) ، والبدائع (٢ / ١٧٩) ، المجموع (٨ / ٢٤٧).