وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))
قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ) إلخ كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمرّدهم ، وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم كمعجزات الأنبياء ، وما يصدر عن قدرة الله الباهرة مما لا يشكّ من له عقل أنه فعل الله سبحانه ، والإعراض : ترك النّظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله و (مِنْ) في (مِنْ آيَةٍ) مزيدة للاستغراق و (مِنْ) في (مِنْ آياتِ) تبعيضية : أي وما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربّهم إلا كانوا عنها معرضين ، والفاء في (فَقَدْ كَذَّبُوا) جواب شرط مقدر : أي إن كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم من ذلك وهو الحق (لَمَّا جاءَهُمْ) قيل : المراد بالحق هنا القرآن ، وقيل : محمد صلىاللهعليهوسلم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أخبار الشيء الذي كانوا به يستهزئون وهو القرآن أو محمد صلىاللهعليهوسلم ، على أن : ما ، عبارة عن ذلك تهويلا للأمر وتعظيما له : أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء ، وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم ، كما يقال : اصبر فسوف يأتيك الخبر ، عند إرادة الوعيد والتهديد ، وفي لفظ الأنبياء ما يرشد إلى ذلك فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم. قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) كلام مبتدأ لبيان ما تقدّمه ، والهمزة للإنكار ، و (كَمْ) يحتمل أن تكون الاستفهامية وأن تكون الخبرية وهي معلقة لفعل الرؤية عن العمل فيما بعده ، و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ، والقرن يطلق على أهل كلّ عصر ، سموا بذلك لاقترانهم ، أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار كم أهلكنا من قبلهم من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم. وقيل : القرن مدّة من الزمان. وهي ستون عاما أو سبعون أو ثمانون أو مائة على اختلاف الأقوال ، فيكون ما في الآية على تقدير مضاف محذوف : أي من أهل قرن. قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) مكن له في الأرض : جعل له مكانا فيها ، ومكنه في الأرض : أثبته فيها ، والجملة مستأنفة ، جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : كيف ذلك؟ وقيل : إن هذه الجملة صفة لقرن ، والأوّل أولى ، و (ما) في (ما لَمْ نُمَكِّنْ) نكرة موصوفة بما بعدها ؛ أي مكنّاهم تمكينا لم نمكّنه لكم ، والمعنى : أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوّة الأبدان وقد أهلكناهم جميعا ، فإهلاككم ـ وأنتم دونهم ـ بالأولى. قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يريد المطر الكثير ، عبر عنه بالسماء ، لأنه ينزل من السماء ، ومنه قول الشاعر (١) :
إذا نزل السّماء بأرض قوم
__________________
(١). هو : معود الحكماء معاوية بن مالك وهذا صدر بيت له وعجزه : رعيناه وإن كانوا غضابا. (تفسير القرطبي ٦ / ٣٩٢)