والمدرار : صيغة مبالغة تدلّ على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور ، وميناث للتي تلد الإناث ، يقال درّ اللبن يدرّ : إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصاب (مِدْراراً) على الحال ؛ وجريان الأنهار من تحتهم معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم : أي أن الله وسّع عليهم النعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها ، فأهلكهم الله بذنوبهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكهم (قَرْناً آخَرِينَ) فصاروا بدلا من الهالكين ، وفي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوّة سلطانه وأنه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء. قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) في هذه الجملة بيان شدّة صلابتهم في الكفر ، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتابا مكتوبا في قرطاس بمرأى منهم ومشاهدة (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين : حاسة البصر ، وحاسة اللمس (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ولم يعملوا بما شاهدوا ولمسوا ، وإذا كان هذا حالهم في المرئيّ المحسوس ، فكيف فيما هو مجرّد وحي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه؟ والكتاب مصدر بمعنى الكتابة ، والقرطاس : الصحيفة. قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوّته صلىاللهعليهوسلم وكفرهم بها : أي قالوا : هلا أنزل الله عليك ملكا نراه ويكلمنا أنه نبيّ حتى نؤمن به ونتبعه؟ كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (١) (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لو أنزلنا ملكا على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لأهلكناهم إذ لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له ، لأن مثل هذه الآية البينة ، وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له ؛ وقيل إن المعنى : إن الله سبحانه لو أنزل ملكا مشاهدا لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء ، بل تزهق أرواحهم عند ذلك فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٢). قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو جعلنا الرسول إلى النبيّ ملكا يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك رجلا ، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسّم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم ، لأنّ كلّ جنس يأنس بجنسه ، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكا مشاهدا مخاطبا لنفروا منه ولم يأنسوا به ، ولداخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته ، هذا أقلّ حال فلا تتمّ المصلحة من الإرسال. وعند أن يجعله الله رجلا : أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر ، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه. قوله (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا : هذا إنسان وليس بملك ، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه. قال الزجاج : المعنى : للبسنا عليهم ؛ أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم ؛ وكانوا يقولون لهم : إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق ، فيلبسون عليهم بهذا ويشكّكونهم ، فأعلم الله عزوجل أنه لو نزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون.
__________________
(١). الفرقان : ٧.
(٢). الكهف : ٧.