(تُرِيدُونَ عَرَضَ) الحياة (الدُّنْيا) أي : نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء ؛ وسمي عرضا : لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل ، وقرئ يريد الآخرة بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله ، أي : والله يريد عرض الآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب (حَكِيمٌ) في كل أفعاله. قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال : الأوّل : ما سبق في علم الله من أنه سيحلّ لهذه الأمة الغنائم ، بعد أن كانت محرّمة على سائر الأمم. والثاني : أنه مغفرة الله لأهل بدر ، ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ، كما في الحديث الصحيح : «إنّ الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». القول الثالث : هو أنه لا يعذبهم ورسول الله صلىاللهعليهوسلم فيهم ، كما قال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). القول الرابع : أنه لا يعذب أحدا بذنب فعله جاهلا لكونه ذنبا. القول الخامس : أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر. القول السادس : أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة ، وتقديم النهي ، ولم يتقدّم نهي عن ذلك. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ ، وأنه يعمها (لَمَسَّكُمْ) أي : لحلّ بكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أي : لأجل ما أخذتم من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) والفاء في (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) لترتيب ما بعدها على سبب محذوف ، أي : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم ، ويجوز أن تكون عاطفة على مقدّر محذوف ؛ أي : اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره ؛ وقيل : إن ما عبارة عن الفداء ، أي : كلوا من الفداء الذي غنمتم ، فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و (حَلالاً طَيِّباً) منتصبان على الحال ، أو صفة المصدر المحذوف ، أي : أكلا حلالا طيبا (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يستقبل ، فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط منكم (رَحِيمٌ) بكم ، فلذلك رخّص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان.
وقد أخرج أحمد عن أنس قال : استشار النبيّ صلىاللهعليهوسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال : «إن الله قد أمكنكم منهم». فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله! أضرب أعناقهم!؟ فأعرض عنه النبيّ صلىاللهعليهوسلم. ثم عاد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم ؛ وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال : يا رسول الله! أضرب أعناقهم؟ فأعرض عنه النبي صلىاللهعليهوسلم ثم عاد ، فقال مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء ، فأنزل الله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والترمذي وحسّنه ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدّلائل ، عن ابن مسعود قال : لمّا كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما ترون في هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! قومك وأهلك فاستبقهم لعلّ الله يتوب عليهم ؛ وقال عمر : يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدّمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا ، فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك ، فدخل النبي