أي : يستخفون في وقت استغشاء الثياب ، وهو التغطي بها ، وقد كانوا يقولون : إذا أغلقنا أبوابنا ، واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد ، فمن يعلم بنا؟ وقيل معنى : حين يستغشون : حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم ؛ وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مرّ به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثنى صدره ، وولى ظهره ، واستغشى ثيابه ، لئلا يسمع كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجملة (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) مستأنفة ، لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء ، لأن الله سبحانه يعلم ما يسرّونه في أنفسهم أو في ذات بينهم ، وما يظهرونه ، فالظاهر والباطن عنده سواء ، والسرّ والجهر سيان ، وجملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل لما قبلها وتقرير له ، وذات الصدور : هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور ؛ وقيل : هي القلوب ، والمعنى : إنه عليم بجميع الضمائر ، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك ؛ ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ، ونهاية الإحسان ، فقال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي : الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه ، تفضلا منه وإحسانا ، وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة (عَلَى) اعتبارا بسبق الوعد به منه ، و (مِنْ) زائدة للتأكيد ، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله ، أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق ، فكيف يغفل عن أحواله ، وأقواله ، وأفعاله! والدابة : كل حيوان يدب (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) أي : محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في الأصلاب (وَمُسْتَوْدَعَها) موضعها في الأرحام ، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها. وقال الفراء : مستقرها : حيث تأوي إليه ليلا ونهارا ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه ، وقد مرّ تمام الأقوال في سورة الأنعام ، ووجه تقدّم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر. وأما على القول الأوّل فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة. والمعنى : وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة وقبل كونها دابة ، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه ؛ ثم ختم الآية بقوله : (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : كل من ما تقدّم ذكره من الدواب ، ومستقرّها ، ومستودعها ، ورزقها في كتاب مبين ، وهو اللوح المحفوظ ، أي : مثبت فيه. ثم أكد دلائل قدرته بالتعرّض لذكر خلق السموات والأرض ، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد تقدّم بيان هذا في الأعراف ، قيل : والمراد بالأيام الأوقات ، أي : في ستة أوقات كما في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) (١) وقيل : مقدار ستة أيام ، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا : الأيام المعروفة ، وهي المقابلة للّيالي ، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء ، وليس اليوم إلا عبارة عن مدّة كون الشمس فوق الأرض ، وكان خلق السموات في يومين ، والأرضين في يومين ، وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد في يومين ، كما سيأتي في حم السجدة. قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي : كان قبل خلقهما عرشه على الماء ، وفيه بيان تقدّم خلق العرش والماء على السموات والأرضين. قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) اللام متعلقة بخلق ، أي : خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار ، والتفكر ، والاستدلال على كمال قدرته ، وعلى البعث والجزاء ، أيهم أحسن عملا فيما أمر به ونهي عنه ، فيجازي
__________________
(١). الأنفال : ١٦.