في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه ، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ، وبين من كان على بينة من ربه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : صدقوا بكل ما يجب التّصديق به ، من كون القرآن من عند الله وغير ذلك من خصال الإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي : أنابوا إليه ، وقيل : خشعوا ، وقيل : خضعوا ، قيل : وأصل الإخبات الاستواء في الخبت : وهو الأرض المستوية الواسعة ، فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء : إلى ربهم ، ولربهم واحد (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات الصالحة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). قوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) ضرب للفريقين مثلا ، وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع ، على أن كل فريق شبه بشيئين ، أو شبه بمن جمع بين الشيئين ، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم ، والمؤمن شبه بمن جمع بين السمع والبصر ، وعلى هذا تكون الواو في (وَالْأَصَمِ) وفي (وَالسَّمِيعِ) بعطف الصفة على الصفة ، كما في قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام
والاستفهام في قوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ) للإنكار : يعني الفريقين ، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وانتصاب مثلا على التمييز من فاعل يستويان ، أي : هل يستويان حالا وصفة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكّر ، وعنده تفكّر وتأمّل ، والهمزة لإنكار عدم التّذكّر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
وقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ) قال : الكافر والمنافق (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) فيسألهم عن أعمالهم (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) شهدوا به عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الأشهاد : الملائكة. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة نحوه ، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله يدني المؤمن حتى يضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : ربّ أعرف ، حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته. وأمّا الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين». وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : هو محمد ، يعني : سبيل الله ، صدّت قريش عنه الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يعني يرجون بمكة غير الإسلام دينا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) الآية قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشّرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنه قال : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) وأما في الآخرة فإنه قال :