بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))
هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية ، مع شمولها لأحكام عدّة : منها الوفاء بالعقود ، ومنها تحليل بهيمة الأنعام ، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ ، ومنها تحريم الصيد على المحرم ، ومنها إباحة الصّيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أنّ أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلّل تحليلا عاما ، ثم استثنى بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، يقال : أوفى ووفى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر فقال :
أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته |
|
كما وفى بقلاص النّجم حاديها |
والعقود : العهود ، وأصل العقود الربوط ، واحدها عقد ، يقال : عقدت الحبل والعهد ، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني ، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام ، قويّ التوثيق ؛ قيل : المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده ، وألزمهم بها من الأحكام ؛ وقيل : هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات ، والأولى شمول الآية للأمرين جميعا ، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض ، انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله ، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ. قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة : اسم لكل ذي أربع ، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ، ومنه باب مبهم : أي مغلق ، وليل بهيم ، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى ، وحلقة مبهمة : لا يدرى أين طرفاها. والأنعام : اسم للإبل والبقر والغنم ، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين ؛ وقيل : بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك ، حكاه ابن جرير الطبري عن قوم ، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج ، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له : أنعام مجموعة معها ، وكأن المفترس كالأسد ،