وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله وينقذه من العذاب ، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة ، فإنهم لا يقدرون على ذلك بل لا مال لهم إذ ذاك ، فالجملة أعني (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق ممّا رزقهم الله ، ويمكن أن يكون فيها أيضا تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة ، وذلك لأنّ تركها كثيرا ما يكون بسبب الاشتغال بالبيع ورعاية حقوق الأخلاء ، وقد تقدّم في البقرة تفسير البيع والخلال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : أبدعهما واخترعهما على غير مثال وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية ، والاسم الشريف مبتدأ وما بعده خبره (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) المراد بالسماء هنا جهة العلوّ ، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال : إن ابتداء المطر منه ، ويدخل فيه السحاب عند من قال : إن ابتداء المطر منها ، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح ، وتنكير الماء هنا للنوعية ، أي : نوعا من أنواع الماء ، وهو ماء المطر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي : أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقا لبني آدم يعيشون به ، و «من» في (مِنَ الثَّمَراتِ) للبيان كقولك : أنفقت من الدراهم ؛ وقيل : للتبعيض لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم ، ومنها ما ليس برزق لهم ، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم ، ولذا قال : (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ) كما تريدون وعلى ما تطلبون (بِأَمْرِهِ) أي : بأمر الله ومشيئته ، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) أي : ذللها لكم بالركوب عليها والإجراء لها إلى حيث تريدون (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما ، وانتصاب (دائِبَيْنِ) على الحال ، والدؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية ، أي دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره ؛ وقيل : دائبين في السير امتثالا لأمر الله ، والمعنى : يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان ، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم ، والليل لتسكنوا ؛ كما قال سبحانه : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (١). (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) قال الأخفش : أي أعطاكم من كلّ مسؤول سألتموه شيئا فحذف شيئا ؛ وقيل : المعنى : وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كلّ ما لم تسألوه ، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري ؛ وقيل : من زائدة ، أي : آتاكم كلّ ما سألتموه ؛ وقيل : للتبعيض ، أي : آتاكم بعض كلّ ما سألتموه. وقرأ ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة «من كلّ» بتنوين كلّ ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون «ما» نافية ، أي : آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له ، ويجوز أن تكون موصولة ، أي : آتاكم من كل شيء الذي سألتموه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالا فضلا عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه ، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال ، وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ، ومعلوم أنه لو رام فرد
__________________
(١). القصص : ٧٣.