وفي نهيهم عن الاستعجال تهكّم بهم (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزّه وترفّع عن إشراكهم ، أو عن أن يكون له شريك ، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب ، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيبا ، فإنّه يتضمّن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك ، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق لا من صفات الخالق ، فكان ذلك شركا (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) قرأ المفضّل عن عاصم : تنزّل الملائكة ، والأصل تتنزل ، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش تنزّل على البناء للمفعول ، وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «ننزّل» بالنون ، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون «ينزّل الملائكة» بالياء التحتية ، إلا أن ابن كثير وأبا عمرو يسكنان النون ، والفاعل هو الله سبحانه ؛ ووجه اتّصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلىاللهعليهوسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره ، ونهاهم عن الاستعجال تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته ، والروح : الوحي ، ومثله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١) وسمّي الوحي روحا لأنه يحيي قلوب المؤمنين ، فإن من جملة الوحي القرآن ، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد ؛ وقيل : المراد أرواح الخلائق ؛ وقيل : الروح الرحمة ، وقيل : الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجّاج : الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد : الروح هنا جبريل ، وتكون الباء على هذا بمعنى مع ، «ومن» في «من أمره» بيانية ، أي : بأشياء أو مبتدأ من أمره أو صفة للروح ، أو متعلّق بينزل ، ومعنى (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على من اختصّه بذلك ، وهم الأنبياء (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزجّاج : (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح ، أي : ينزلهم بأن أنذروا ، وأن إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدّر ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا ، أي : أعلموا الناس (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي : مروهم بتوحيدي وأعلموهم ذلك مع تخويفهم ؛ لأن في الإنذار تخويفا وتهديدا ، والضمير في أنه للشأن (فَاتَّقُونِ) الخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات ، وهو تحذير لهم من الشرك بالله ، ثم إنّ الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليها بالحق ؛ أي : للدلالة على قدرته ووحدانيته ؛ وقيل : المراد بالحق هنا الفناء والزوال (تَعالى) الله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : ترفّع وتقدّس عن إشراكهم أو عن شركة الذي يجعلونه شريكا له. ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدّمه وخصّه بالذكر ، فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) وهو اسم لجنس هذا النوع (مِنْ نُطْفَةٍ) من جماد يخرج من حيوان ، وهو المنيّ (٢) ، فنقله أطوارا إلى أن كملت صورته ، ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش
__________________
(١). غافر : ١٥.
(٢). المنيّ : هو مجموع المواد المفرزة من الجهاز التناسلي الذكري أثناء الدفق من القضيب ، ويشمل : النطاف من الخصية ومفرزات الغدد الجنسية اللاحقة ، ويحتوي كل ١ سم ٣ منه على (٥٠ ـ ٣٥٠) مليون نطفة ، وعدد المتحركة فيها : (٦٠ ـ ٧٥) والنطاف المتوسطة الحركة (١٥) وغير المتحركة (١٠)