فيها (فَإِذا هُوَ) بعد خلقه على هذه الصفة (خَصِيمٌ) أي : كثير الخصومة والمجادلة ، والمعنى : أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته ، ومعنى (مُبِينٌ) ظاهر الخصومة واضحها ، وقيل : يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل ، والمبين هو المفصح عمّا في ضميره بمنطقه ، ومثله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (١) ، عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع ، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها ، فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) وهي الإبل والبقر والغنم ، وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ، ولا يقال للغنم مفردة ، ومنه قول حسّان :
وكانت لا يزال بها أنيس |
|
خلال مروجها نعم وشاء |
فعطف الشاء على النعم ، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري : والنّعم واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال : (فِيها دِفْءٌ) الدفء : السخانة ، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، والجملة في محلّ النصب على الحال (وَمَنافِعُ) معطوف على دفء ، وهي درّها وركوبها ونتاجها والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل : إن الدفء : النتاج واللبن. قال في الصّحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، ثم قال : والدفء أيضا السّخونة ، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل ، فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها ، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحا ؛ وقيل : المراد بالمنافع النتاج خاصة ؛ وقيل : الركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : من لحومها وشحومها ؛ وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها ؛ وقيل : خصّها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها ، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل ، وغيره نادر (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال ، والجمال : ما يتجمّل به ويتزين ، والجمال : الحسن ، والمعنى هنا : لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي : في هذين الوقتين ، وهما وقت ردّها من مراعيها ، ووقت تسريحها إليها ، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي ؛ والسراح : مسيرها إلى مراعيها بالغداة ، يقال : سرحت الإبل أسرحها سرحا وسروحا ؛ إذا غدوت بها إلى المرعى ، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل ، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب ، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها ، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد ، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر من طعام وغيره ، وسمّي ثقلا لأنه يثقل الإنسان حمله ؛ وقيل : المراد أبدانهم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي : لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلا بشق الأنفس لبعده عنكم ، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر. وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين ؛ وقيل : المراد بالبلد مكة ،
__________________
(١). يس : ٧٧.