وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع ، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد ، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به ، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة ؛ لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) القصد مصدر بمعنى الفاعل ، فالمعنى وعلى الله قاصد السّبيل ؛ أي : هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع ؛ وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير : وعلى الله بيان قصد السبيل ، والسبيل : الإسلام ، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين ، والقصد في السبيل هو كونه موصلا إلى المطلوب ، فالمعنى : وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب (وَمِنْها جائِرٌ) الضمير في «منها» راجع إلى السبيل بمعنى الطريق ، لأنها تذكر وتؤنث ؛ وقيل : راجع إليها بتقدير مضاف ، أي : ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل منه ، فلا يهتدى به ، ومنه قول امرئ القيس :
ومن الطريقة جائر وهدى |
|
قصد السبيل منه ذو دخل (١) |
وقيل : إن الطريق كناية عن صاحبها ، والمعنى : ومنهم جائر عن سبيل الحق ؛ أي : عادل عنه ، فلا يهتدي إليه قيل وهم أهل الأهواء المختلفة ، وقيل : أهل الملل الكفرية ، وفي مصحف عبد الله : «ومنكم جائر» وكذا قرأ عليّ (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح ، والمنهج الحق لفعل ذلك ، ولكنه لم يشأ ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق والدلالة عليها : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر ، ولا من يستحق النار من المسلمين ، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمنا والبعض كافرا ، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : «لما نزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) ذعر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فسكنوا». وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : «لما نزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) قاموا ، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)». وأخرج ابن مردويه من طريق الضحّاك عن ابن عباس (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال : خروج محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال : «لما نزلت هذه الآية (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (٢) ، فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الآية» (٣). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال : الأحكام والحدود والفرائض. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) قال : بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والبيهقي عنه قال الروح : أمر من أمر الله وخلق من خلق الله ، وصورهم على صورة بني آدم ، وما ينزل من السماء
__________________
(١). «دخل» : أي : فساد.
(٢). الأنبياء : ١.
(٣). هود : ٨.