بها العباد على مقادير الأوقات ، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان ؛ ومعنى مسخرات مذلّلات. وقرأ ابن عامر وأهل الشام (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) بالرفع على الابتداء والخبر. وقرأ الباقون بالنصب عطفا على الليل والنهار ، وقرأ حفص عن عاصم برفع النجوم على أنه مبتدأ وخبره : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالا مؤكدة ؛ لأن التسخير قد فهم من قوله : (وَسَخَّرَ) ؛ وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مسخرات (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرّده وعدم وجود شريك له ، وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة ، وجمعها ليطابق قوله مسخرات ؛ وقيل : إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها بخلاف ما تقدّم من الإنبات فإنه آية واحدة ، ولا يخلو كل هذا عن تكلّف ؛ والأولى أن يقال : إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار وللإفراد باعتبار ، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانا وتنبيها على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلق ، يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا : خلقهم ، فهو ذارئ ، ومنه الذّرية ، وهي نسل الثقلين ، وقد تقدّم تحقيق هذا ، وهو معطوف على النجوم رفعا ونصبا ، أي : وسخر لكم ما ذرأ في الأرض. فالمعنى : أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية ، وانتصاب مختلفا ألوانه على الحال ، وألوانه : هيئاته ومناظره ، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكلّ في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرّده (إِنَّ فِي ذلِكَ) التسخير لهذه الأمور (لَآيَةً) واضحة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن من تذكّر اعتبر ، ومن اعتبر استدلّ على المطلوب ؛ وقيل : وإنما خصّ المقام الأوّل بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة ؛ وخصّ المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبه وإزاحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له ؛ وخصّ المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة ، فمن شك بعد ذلك فلا حسّ له ، وفي هذا من التكلّف ما لا يخفى. والأولى أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدّم في إفراد الآية في البعض وجمعها في البعض الآخر ، وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ولذكر التعقل ولذكر التذكر لاعتبارات ظاهرة غير خفية ، فكان في التعبير في كلّ موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر ؛ لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته ، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية ، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتماما للحجة ، وتكميلا للإنذار ، وتوضيحا لمنازع الاستدلال ومناطات البرهان ، ومواضع النظر والاعتبار ؛ ثم ذكر العلّة في تسخير البحر فقال : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) المراد به السمك ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته ، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ