لأن من النجوم ما يهتدى به ، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها. وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار ؛ وقيل : هو الاهتداء إلى القبلة ، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك. قال الأخفش : ثمّ الكلام عند قوله وعلامات ، وقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) كلام منفصل عن الأول ؛ ثم لما عدّد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها ، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه ، وأطلق عليها لفظ «من» إجراء لها مجرى أولي العلم جريا على زعمهم بأنها آلهة ، أو مشاكلة لقوله : «أفمن يخلق» لوقوعها في صحبته ، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى ، وما أحقهم بذلك ، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكا لخالقه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرّده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك ، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرّد التذكر لها ؛ ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم ، قال العقلاء : إن كلّ جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغّص النعم على الإنسان ، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل ، فهو سبحانه يدبّر بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له ، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك ، فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها ، أو يتمكّن من شكر أدناها؟
يا ربنا هذه نواصينا بيدك ، خاضعة لعظيم نعمك ، معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشيء منها ، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، ولا نطيق التعبير بالشكر لك ، فتجاوز عنا ، واغفر لنا ، وأسبل ذيول سترك على عوراتنا ، فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك ، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك ، وما أحسن ما قال من قال :
العفو يرجى من بني آدم |
|
فكيف لا يرجى من الرّب |
فقلت مذيّلا لهذا البيت الذي هو قصر مشيد :
فإنه أرأف بي منهم |
|
حسبي به حسبي به حسبي |
وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيرا إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته ، فقال : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه ، والقصور عن إحصائها ، والعجز عن القيام بأدناها ، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها. اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كلّ زمان ، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان ، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك ، وإن رأيت
__________________
(١). الأعراف : ١٩٠.