أو بيان لما. وقوله : (فَمِنَ اللهِ) الخبر ، وعلى كون ما شرطية يكون فعل الشرط محذوفا أي : ما يكن ، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية ، أو بدنية أو خارجية كالسعادات المالية وغيرها ، وكلّ واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها ، والكل من الله سبحانه فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه ، ثم بيّن تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي : إذا مسكم الضرّ ، أيّ مس ، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه فلا كاشف له إلا هو ، يقال : جأر يجأر جؤارا : إذا رفع صوته في تضرع. قال الأعشى (١) يصف بقرة :
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة |
|
وكان النّكير أن تضيف (٢) وتجأرا |
والضرّ : المرض والبلاء والحاجة والقحط ، وكلّ ما يتضرّر به الإنسان (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي : إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ (إِذا فَرِيقٌ) أي : جماعة منكم (بِرَبِّهِمْ) الذي رفع الضر عنهم يشركون فيجعلون معه إلها آخر من صنم أو نحوه ، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له ، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس ، ويأتي في سبحان (٣). قال الزجّاج : هذا خاص بمن وكفر. وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر ، وعلى هذا فتكون «من» في (مِنْكُمْ) للتبعيض حيث كان الخطاب للناس جميعا ، والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجها إلى الكفار فمن للبيان ، واللام في (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) لام كي ، أي : لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ ، وحتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم ، وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية ؛ وقيل : اللام للعاقبة ، يعني : ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا هذا الكفر. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب (فَتَمَتَّعُوا) بما أنتم فيه من ذلك (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة أمركم وما يحل بكم في هذه الدار وما تصيرون إليه في الدار الآخرة. ثم حكى سبحانه نوعا آخر من قبائح أعمالهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضرّ عنهم وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبا مما رزقناهم من أموالهم يتقرّبون به إليه. وقيل : المعنى : أنهم ، أي : الكفار ، يجعلون للأصنام وهم لا يعلمون شيئا لكونهم جمادات ، ففاعل يعلمون على هذا هي الأصنام ، وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون جريا على اعتقاد الكفار فيها. وحاصل المعنى : ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعقل شيئا نصيبا من أموالهم التي رزقهم الله إياها (تَاللهِ
__________________
(١). الذي في اللسان مادة «ضيف» أنه النابغة الجعدي.
(٢). في المطبوع : تطيف ، والتصحيح من اللسان وتفسير القرطبي (١٠ / ١١٥). «تضيف» : تشفق وتحذر. «النكير» : الإنكار. «تجأر» : تصيح.
(٣). أي : في سورة الإسراء.