هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظه إلى بيت المقدس ، ثم إلى السموات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلىاللهعليهوسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتدّ من ارتدّ ممّن لم يشرح بالإيمان صدرا ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد ؛ وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (١) فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء ، فالتّصريح الواقع هنا بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسري به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصحّ حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلىاللهعليهوسلم ركب البراق؟ وكيف يصحّ وصف الروح بالركوب؟ وهكذا كيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه صلىاللهعليهوسلم بأنه كان عند ما أسري به بين النائم واليقظان؟.
وقد اختلف أيضا في تاريخ الإسراء ، فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة. وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام. ووجه ذلك أن خديجة صلّت مع النبي صلىاللهعليهوسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل : بثلاث ، وقيل : بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء. وقد استدل بهذا ابن عبد البرّ على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن الزهري. وممّن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال : أسري بالنبي صلىاللهعليهوسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة. وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال ابن عبد البرّ : لا أعلم أحدا من أهل السير قال بمثل هذا. وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنين. وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة ، قيل : والمعنى : كرّمنا محمدا بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب (وَجَعَلْناهُ) أي : ذلك الكتاب ، وقيل : موسى (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يهتدون به (أَلَّا تَتَّخِذُوا). قرأ أبو عمرو بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، أي : لئلا يتخذوا. والمعنى : آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) قال الفراء : أي : كفيلا بأمورهم ، وروي عنه أنه قال : كافيا ؛ وقيل : معناه : أي : متوكلون عليه في أمورهم ؛ وقيل : شريكا ، ومعنى الوكيل في اللغة : من توكل إليه الأمور (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) نصب على الاختصاص أو النداء ، ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق ، ويجوز أن يكون المفعول الأوّل لقوله (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا ، كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) (٢). وقرئ بالرفع
__________________
(١). الإسراء : ٦٠.
(٢). آل عمران : ٨٠.