إنما اعتقدوا أنها تقرّبهم إلى الله. والظاهر المعنى الأول ، ومثل معناه قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١). ثم نزّه تعالى نفسه ، فقال : (سُبْحانَهُ) والتسبيح : التنزيه ، وقد تقدّم. (وَتَعالى) متباعد (عَمَّا يَقُولُونَ) من الأقوال الشنيعة والفرية العظيمة (عُلُوًّا) أي : تعاليا ، ولكنه وضع العلوّ موضع التعالي كقوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٢). ثم وصف العلوّ بالكبر مبالغة في النزاهة ، وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته ، وبين الغنيّ المطلق والفقير المطلق ، مباينة لا تعقل الزيادة عليها. ثم بيّن سبحانه جلالة ملكه وعظمة سلطانه فقال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قرئ بالمثناة التحتية في يسبح وبالفوقية ، وقال : (فِيهِنَ) بضمير العقلاء لإسناده إليها التسبيح الذي هو فعل العقلاء ، وقد أخبر سبحانه عن السموات والأرض بأنها تسبّحه ، وكذلك من فيها من مخلوقاته الذين لهم عقول ، وهم الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأشياء التي لا تعقل ، ثم زاد ذلك تعميما وتأكيدا فقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فشمل كل ما يسمى شيئا كائنا ما كان ، وقيل : إنه يحمل قوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) على الملائكة والثقلين ، ويحمل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) على ما عدا ذلك من المخلوقات.
وقد اختلف أهل العلم في هذا العموم هل هو مخصوص أم لا؟ فقالت طائفة : ليس بمخصوص ، وحملوا التسبيح على تسبيح الدلالة لأن كل مخلوق يشهد على نفسه ويدلّ غيره بأن الله خالق قادر. وقالت طائفة : هذا التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره. والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه هذا التسبيح الذي معناه التنزيه ، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فإنّه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد. وأجيب بأن المراد بقوله لا تفقهون الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار. وقالت طائفة : إن هذا العموم مخصوص بالملائكة والثقلين دون الجمادات ، وقيل : خاص بالأجسام النامية فيدخل النباتات ، كما روي هذا القول عن عكرمة والحسن ، وخصّا تسبيح النباتات بوقت نموها لا بعد قطعها ، وقد استدلّ لذلك بحديث «أن النبي صلىاللهعليهوسلم مرّ على قبرين» وفيه «ثم دعا بعسيب رطب فشقّه اثنين ، وقال : إنه يخفّف عنهما ما لم ييبسا» ويؤيد حمل الآية على العموم قوله : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (٣) وقوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٤) ، وقوله : (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٥) ونحو ذلك من الآيات ، وثبت في الصحيح أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام ، وهم يأكلون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهكذا حديث حنين الجذع ، وحديث «أن حجرا بمكة كان يسلّم على النبي صلىاللهعليهوسلم» ، وكلها في الصحيح «ومن ذلك تسبيح الحصى في كفه» صلىاللهعليهوسلم ، ومدافعة عموم هذه الآية بمجرّد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده ، ومعنى (إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إلا يسبح متلبسا بحمده (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). قرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف (تُسَبِّحُ) بالمثناة الفوقية على الخطاب ، وقرأ الباقون بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو عبيد (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فمن حلمه الإمهال لكم ، وعدم إنزال عقوبته عليكم ، ومن مغفرته لكم
__________________
(١). الأنبياء : ٢٢.
(٢). نوح : ١٧.
(٣). ص : ١٨.
(٤). البقرة : ٧٤.
(٥). مريم : ٩٠.