انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة ، والاقتصار على علّة التساؤل لا ينفي غيرها ، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار ، وجملة : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) مبينة لما قبلها من التساؤل ، أي : كم مدّة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي : قال بعضهم جوابا عن سؤال من سأل منهم ، قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة ، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار ، فلذلك قالوا يوما ، فلما رأوا الشمس قالوا : أو بعض يوم ، وكان قد بقيت بقية من النهار ، وقد مرّ مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ، أي : قال البعض الآخر هذا القول ، إما على طريق الاستدلال ، أو كان ذلك إلهاما لهم من الله سبحانه ، أي : إنكم لا تعلمون مدّة لبثكم ، وإنما يعلمها الله سبحانه (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أعرضوا عن التحاور في مدّة اللبث ، وأخذوا في شيء آخر ، كأنه قال القائل منهم : اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة ، وخذوا في شيء آخر ممّا يهمّكم ، والفاء للسببية ، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بسكونها ، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف ، وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء. وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله ، والمدينة دقسوس ، وهي مدينتهم التي كانوا فيها ، ويقال لها اليوم طرسوس ، كذا قال الواحدي : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي : ينظر أيّ أهلها أطيب طعاما ، وأحلّ مكسبا ، أو أرخص سعرا ؛ وقيل : يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام ، كما يقال : زيد طبت أبا على أن الأب هو زيد ، وفيه بعد. واستدل بالآية على حلّ ذبائح أهل الكتاب ؛ لأن عامة أهل المدينة كانوا كفارا ، وفيهم قوم يخفون إيمانهم ، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : يدقّق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن ، والأوّل أولى ، ويؤيّده (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي : لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى الشعور ويتسبّب له ، فهذا النهي يتضمّن التأكيد للأمر بالتلطف. ثم علّل ما سبق من الأمر والنهي فقال : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي : يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ، يعني أهل المدينة (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة ، وكان ذلك عادة لهم ، ولهذا خصّه من بين أنواع ما يقع به القتل (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي : يردّوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله ، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملّتهم ، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) في إذا معنى الشرط ، كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذا أبدا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (تَزاوَرُ) قال : تميل ، وفي قوله : (تَقْرِضُهُمْ) قال : تذرهم. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (تَقْرِضُهُمْ) قال : تتركهم (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) قال : المكان الداخل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير ، قال : الفجوة : الخلوة من الأرض ، ويعني بالخلوة : الناحية من الأرض. وأخرج ابن أبي حاتم