وقد اختلف الناس في نبوّة مريم ، فقيل : إنها نبية بمجرّد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك ؛ وقيل : لم تكن نبية ؛ لأنّه إنّما كلّمها الملك وهو على مثال البشر ، وقد تقدّم الكلام في هذا في آل عمران (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي : اتخذت من دون أهلها حجابا يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة ، أو حال التطهر من الحيض ، والحجاب : الستر والحاجز (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) هو جبريل تمثّل جبريل لها بشرا مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئا ، قيل : ووجه تمثل الملك لها بشرا أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته ، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء ، فاستعاذت بالله منه ، و (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : ممّن يتقي الله ويخافه ؛ وقيل : إن تقيا اسم رجل صالح ، فتعوّذت منه تعجّبا ؛ وقيل : إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت ، والأوّل أولى. وجواب الشرط محذوف ، أي : فلا تتعرّض لي (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي : قال لها جبريل : إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به ، ولست ممّن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) جعل الهبة من قبله لكونه سببا فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته ، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع ليهب على معنى أرسلني ليهب لك ، وقرأ الباقون بالهمز. والزكيّ : الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة ، وقيل : المراد بالزكيّ النبيّ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي : لم يقربني زوج ولا غيره (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) البغيّ : هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد : أصله بغوي على فعول ، قلبت الواو ياء ، ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جني : إنه فعيل ؛ وزيادة ذكر كونها لم تك بغيا مع كون قولها لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيها لجانبها من الفحشاء ؛ وقيل : ما استبعدت من قدرة الله شيئا ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوّجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل : إن المسّ عبادة عن النكاح الحلال ، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ، وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة ، وما يوجد في محاوراتهم ممّا يطول تعداده اه. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي : ولنجعل هذا الغلام ، أو خلقه من غير أب ، آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة ، وهو علّة لمعلّل محذوف ، والتقدير : خلقناه لنجعله ، أو معطوف على علّة أخرى مضمرة تتعلّق بما يدلّ عليه قوله سبحانه (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وجملة : (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) مستأنفة ، والقائل هو الملك ، والكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من قول زكريا. وقوله : (وَرَحْمَةً مِنَّا) معطوف على آية : أي ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير ؛ لأنّ كل نبيّ رحمة لأمته (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي : وكان ذلك المذكور أمرا مقدّرا قد قدّره الله سبحانه وجف به القلم (فَحَمَلَتْهُ) هاهنا كلام مطويّ ، والتقدير : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته ؛ وقيل : كانت النفخة في ذيلها ، وقيل : في فمها. قيل : إن وضعها كان متّصلا بهذا الحمل من