في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون ، فنسبوها إليه على وجهة التعيير والتوبيخ ، حكاه ابن جرير ولم يسمّ قائله وهو ضعيف. (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) هذا فيه تقرير لما تقدّم من التعيير والتوبيخ ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرّية الصالحين مما لا ينبغي أن تكون (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي : إلى عيسى ، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق ؛ لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام كما تقدّم ، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها ، وعلى تقدير أنها قد خرجت من أيام نذرها ، فيمكن أن يقال : إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة ، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم. قال أبو عبيدة : في الكلام حشو زائد ، والمعنى : كيف نكلّم صبيا في المهد ، كقول الشاعر (١) :
وجيران لنا كانوا كرام (٢)
وقال الزجّاج : الأجود أن تكون «من» في معنى الشرط والجزاء ، والمعنى : من يكون في المهد صبيا فكيف نكلّمه. ورجّحه ابن الأنباري وقال : لا يجوز أن يقال : إن «كان» زائدة وقد نصبت صبيا ، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل ، وهو نكلم كما سبق تقديره ؛ وقيل : إن «كان» هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. وردّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر. والمهد : هو شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي. والمعنى كيف نكلم من سبيله أن ينوّم في المهد لصغره ، وقيل : هو هنا حجر الأمّ ، وقيل : سرير كالمهد ، فلما سمع عيسى كلامهم (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فكان أوّل ما نطق به الاعتراف بالعبودية له (آتانِيَ الْكِتابَ) أي : الإنجيل ، أي : حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوّة في الأزل ، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبيا ؛ وقيل : إنه آتاه الكتاب وجعله نبيا في تلك الحال ، وهو بعيد (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي : حيثما كنت ، والبركة : أصلها من بروك البعير ، والمعنى : جعلني ثابتا في دين الله ؛ وقيل : البركة هي الزيادة والعلوّ ، فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء زائدا عاليا منجحا ؛ وقيل معنى المبارك النفاع للعباد ، وقيل : المعلم للخير ، وقيل : الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) أي : أمرني بها (وَالزَّكاةِ) زكاة المال ، أو تطهير النفس (ما دُمْتُ حَيًّا) أي : مدة دوام حياتي ، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع ؛ تنبيها على تحقيق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) معطوف على مباركا ، واقتصر على البرّ بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب ، وقرئ (وَبَرًّا) بكسر الباء على أنه مصدر وصف به مبالغة (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) الجبار : المتعظّم الذي لا يرى لأحد عليه حقا ، والشقيّ : العاصي لربه ، وقيل : الخائب ، وقيل : العاقّ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) قال المفسرون : السلام هنا بمعنى السلامة ، أي : السلامة عليّ يوم ولدت ، فلم يضرّني الشيطان في ذلك الوقت ولا أغواني عند الموت ولا عند البعث ؛
__________________
(١). هو الفرزدق.
(٢). وصدره : فكيف إذا رأيت ديار قوم.