النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت طائفة من العرب : الملائكة بنات الله. ثم نزّه عزوجل نفسه. فقال : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن ذلك ، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي : ليسوا كما قالوا ، بل هم عباد الله سبحانه مكرمون بكرامته لهم ، مقرّبون عنده. وقرئ (مُكْرَمُونَ) بالتشديد ، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى : بل اتخذ عبادا ، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يقولون شيئا حتى يقوله أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره ، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ «لا يسبقونه» بضم الباء من سبقته أسبقه (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي : هم العاملون بما يأمرهم الله به ، التابعون له المطيعون لربهم (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يعلم ما عملوا وما هم عاملون ، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة ، وما خلفهم وهو الدنيا ، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا ، لم يعملوا عملا ولم يقولوا قولا إلا بأمره (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي : يشفع الشافعون له ، وهو من رضي عنه ، وقيل : هم أهل لا إله إلا الله ، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي : من خشيتهم منه ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ، والخشية : الخوف مع التعظيم ، والإشفاق : الخوف مع التوقع والحذر ، أي : لا يأمنون مكر الله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي : من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون : عنى بهذا إبليس ؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس ، وقيل : الإشارة إلى جميع الأنبياء (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي : فذلك القائل ، على سبيل الفرض والتقدير ، نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله ، كما نجزي غيره من المجرمين (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم ، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها ، والمراد بالظالمين المشركون (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، والرؤية هي القلبية ، أي : لم يتفكروا ولم يعلموا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) قال الأخفش : إنما قال كانتا ، لأنهما صنفان ، أي : جماعتا السماوات والأرضين ، كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (١) وقال الزجاج : إنما قال كانتا لأنه يعبر عن السماوات بلفظ الواحد ، لأن السماوات كانت سماء واحدة ، وكذلك الأرضون ، والرتق : السدّ ، ضدّ الفتق ، يقال : رتقت الفتق أرتقه فارتتق ، أي : التأم ، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج ، يعني : أنهما كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ، وقال رتقا ولم يقل رتقين لأنه مصدر ، والتقدير : كانتا ذواتي رتق ، ومعنى (فَفَتَقْناهُما) ففصلناهما ؛ أي : فصلنا بعضهما من بعض ، فرفعنا السماء ، وأبقينا الأرض مكانها (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي : أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء ، فيشمل الحيوان والنبات ، والمعنى أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل : المراد بالماء هنا النطفة ، وبه قال أكثر المفسرين ، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية ، والهمزة في (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) للإنكار
__________________
(١). فاطر : ٤١.