في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (١). (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) أي : يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله ، وقيل : إن هذا الذكر كناية عن الذّبح لأنه لا ينفك عنه. والأيام المعلومات هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وقيل : عشر ذي الحجّة. وقد تقدّم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده ، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث ، ومعنى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ) : على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، وبهيمة الأنعام : هي الأنعام ، فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم : مسجد الجامع وصلاة الأولى. (فَكُلُوا مِنْها) الأمر هنا للندب عند الجمهور ، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب ، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) البائس : ذو البؤس ، وهو شدة الفقر ، فذكر الفقير بعده لمزيد الإيضاح ، والأمر هنا للوجوب ، وقيل : للندب. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) المراد بالقضاء هنا هو التأدية ، أي : ليؤدوا إزالة وسخهم ، لأن التفث هو الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار ، وقد أجمع المفسرون كما حكاه النيسابوري على هذا. قال الزجّاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث. وقال أبو عبيدة : لم يأت في الشرع ما يحتجّ به في معنى التفث. وقال المبرّد : أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان. وقيل : قضاؤه ادّهانه ؛ لأن الحاجّ مغبّر شعث لم يدهن ولم يستحد ، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه ، فهذا هو قضاء التفث. قال الزجاج : كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي : ما ينذرون به من البرّ في حجّهم ، والأمر للوجوب ، وقيل : المراد بالنذور هنا أعمال الحج (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هذا الطواف هو طواف الإفاضة. قال ابن جرير : لا خلاف في ذلك بين المتأوّلين ، والعتيق : القديم كما يفيده قوله سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) (٢) الآية ، وقد سمّي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلّط عليه جبار ، وقيل : لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب ، وقيل : لأنه أعتق من غرق الطوفان ، وقيل : العتيق : الكريم.
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : الحرم كله ، وهو المسجد الحرام (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال : خلق الله فيه سواء. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : هم في منازل مكة سواء ، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم. وقال : البادي وأهل مكة سواء ، يعني في المنزل والحرم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال : من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه (٣) نارا. وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له عند المروة : يا أمير المؤمنين أقطعني مكانا لي ولعقبي ، فأعرض عنه عمر وقال : هو حرم الله سواء العاكف فيه الباد. وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبوابا حتى ينزل الحاجّ في عرصات الدّور. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، قال
__________________
(١). البقرة : ١٩٨.
(٢). آل عمران : ٩٦.
(٣). لعلّ الصواب : بطنه.