النيسابوري في تفسيره. قال : وممّا يدل على صحّة هذا القول قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (١) والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢) والغفلة تضادّ الذكر ، ولهذا قال : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٣) وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٤) نهي للسكران ، والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. واللغو ، قال الزجّاج : هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل ، وقد تقدّم تفسيره في البقرة. وقال الضحّاك : إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن : إنه المعاصي كلها. ومعنى إعراضهم عنه : تجنّبهم له وعدم التفاتهم إليه ، وظاهره اتّصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كلّ الأوقات ، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولا أوّليا كما تفيده الجملة الاسمية ، وبناء الحكم على الضمير ، ومعنى فعلهم للزكاة تأديتهم لها ، فعبّر عن التأدية بالفعل لأنّها ممّا يصدق عليه الفعل ، والمراد بالزكاة هنا المصدر لأنه الصادر عن الفاعل. وقيل : يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف ، أي : (وَالَّذِينَ هُمْ) لتأدية (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ـ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج : يطلق على فرج الرجل والمرأة ، ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عمّا لا يحلّ لهم. قيل : والمراد هنا الرجال خاصة دون النساء بدليل قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) للإجماع على أنه لا يحلّ للمرأة أن يطأها من تملكه. قال الفرّاء : إن على في قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) بمعنى من. وقال الزّجّاج : المعنى أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ، ودلّ على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية ، والجملة في محل نصب على الحال ، وقيل : إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ ، أي : لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل : المعنى : إلا والين على أزواجهم وقوّامين عليهم ، من قولهم : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان. والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم ، وجملة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) في محل جرّ عطفا على أزواجهم ، وما مصدرية ، والمراد بذلك الإماء ؛ وعبّر عنهنّ بما التي لغير العقلاء ، لأنه اجتمع فيهنّ الأنوثة المنبئة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهنّ كسائر السلع ، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء ، وجملة (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) تعليل لما تقدّم ممّا لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين ؛ ومعنى «العادون» : المجاوزون إلى ما لا يحلّ لهم ، فسمّى سبحانه من نكح ما لا يحلّ عاديا ، ووراء هنا بمعنى سوى وهو مفعول ابتغى. قال الزجّاج : أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف ، ووراء ظرف.
وقد دلّت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة ، واستدلّ بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء (٥) لما ذكر ، وقد جمعنا في ذلك رسالة سمّيناها «بلوغ المنى في حكم الاستمناء» ، وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز وترجيح الراجح منهما (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) قرأ الجمهور (لِأَماناتِهِمْ) بالجمع. وقرأ ابن كثير بالإفراد. والأمانة ما يؤتمنون عليه ، والعهد ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة
__________________
(١). النساء : ٨٢.
(٢). طه : ١٤.
(٣). الأعراف : ٢٠٥.
(٤). النساء : ٤٣.
(٥). المقصود : الإشارة إلى قوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ).