ويجوز أن يكون في موضع الحال ، أي : متواترين (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) هذه الجملة مستأنفة مبينة لمجيء كل رسول لأمته ، على أن المراد بالمجيء التبليغ (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي : في الهلاك بما نزل بهم من العذاب (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الأحاديث : جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به الناس ، كالأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجب الناس منه. قال الأخفش : إنما يقال «جعلناهم أحاديث» في الشرّ ولا يقال في الخير ، كما يقال : صار فلان حديثا ، أي : عبرة ، وكما قال سبحانه في آية أخرى : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (١). قلت : وهذه الكلية غير مسلمة ؛ فقد يقال : صار فلان حديثا حسنا ، ومنه قول ابن دريد في مقصورته :
وإنّما المرء حديث بعده |
|
فكن حديثا حسنا لمن وعى |
(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) وصفهم هنا بعدم الإيمان ، وفيما سبق قريبا بالظلم ؛ لكون كلّ من الوصفين صادرا عن كل طائفة من الطائفتين ، أو لكون هؤلاء لم يقع منهم إلا مجرّد عدم التصديق ، وأولئك ضمّوا إليه تلك الأقوال الشنيعة التي هي من أشدّ الظلم وأفظعه. ثم حكى سبحانه ما وقع من فرعون وقومه عند إرسال موسى وهارون إليهم فقال : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) هي التسع المتقدّم ذكرها غير مرّة ، ولا يصح عدّ فلق البحر منها هنا ؛ لأن المراد الآيات التي كذّبوا بها واستكبروا عنها. والمراد بالسلطان المبين : الحجّة الواضحة البينة. قيل : هي الآيات التسع نفسها ، والعطف من باب :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وقيل : أراد العصا لأنها أمّ الآيات ، فيكون من باب عطف جبريل على الملائكة. وقيل : المراد بالآيات ؛ التي كانت لهما ، وبالسلطان : الدلائل ، والمبين : التسع الآيات ، والمراد بالملإ في قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) هم الأشراف منهم كما سبق بيانه غير مرّة (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : طلبوا الكبر وتكلّفوه فلم ينقادوا للحق (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) قاهرين للناس بالبغي والظلم ، مستعلين عليهم ، متطاولين كبرا وعنادا وتمرّدا. وجملة (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) معطوفة على جملة (فَاسْتَكْبَرُوا) وما بينهما اعتراض ، والاستفهام للإنكار ، أي : كيف نصدّق من كان مثلنا في البشرية ، والبشر يطلق على الواحد كقوله : (بَشَراً سَوِيًّا) (٢) كما يطلق على الجمع كما في قوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٣) فتثنيته هنا هي باعتبار المعنى الأول ، وأفرد المثل لأنه في حكم المصدر ، ومعنى (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أنهم مطيعون لهم ، منقادون لما يأمرونهم به كانقياد العبيد. قال المبرّد : العابد : المطيع الخاضع. قال أبو عبيدة : العرب تسمّي كلّ من دان لملك عابدا له ، وقيل : يحتمل أنه كان يدّعي الإلهية فدعا الناس إلى عبادته فأطاعوه ، واللام في (لَنا) متعلقة بعابدون ، قدّمت عليه لرعاية الفواصل ، والجملة حالية. (فَكَذَّبُوهُما) أي : فأصرّوا على تكذيبهما (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في البحر. ثم حكى سبحانه ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوّهم فقال : (وَلَقَدْ
__________________
(١). سبأ : ١٩.
(٢). مريم : ١٧.
(٣). مريم : ٢٦.