آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة ، وخصّ موسى بالذكر لأن التوراة أنزلت عليه في الطور ، وكان هارون خليفته في قومه : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي : لعلّ قوم موسى يهتدون بها إلى الحق ، ويعملون بما فيها من الشرائع ، فجعل سبحانه إيتاء موسى إياها إيتاء لقومه ، لأنها وإن كانت منزلة على موسى فهي لإرشاد قومه. وقيل : إن ثمّ مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه ، أي : آتينا قوم موسى الكتاب. وقيل : إن الضمير في (لَعَلَّهُمْ) يرجع (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ، وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك فرعون وقومه ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) (١) ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالا فقال : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي : علامة تدلّ على عظيم قدرتنا ، وبديع صنعنا ، وقد تقدّم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٢). ومعنى قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) إلى مكان مرتفع ، أي : جعلناهما يأويان إليها. قيل : هي أرض دمشق ، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل ؛ وقيل : بيت المقدس ، قاله قتادة وكعب ؛ وقيل : أرض فلسطين ، قاله السدّي (ذاتِ قَرارٍ) أي : ذات مستقرّ يستقرّ عليه ساكنوه (وَمَعِينٍ) أي : وماء معين. قال الزّجّاج : هو الماء الجاري في العيون ، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع ، وقيل : هو فعيل بمعنى مفعول. قال عليّ بن سليمان الأخفش : معن الماء ؛ إذا جرى فهو معين ومعيون. وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل : هو مأخوذ من الماعون ، وهو النفع ، وبمثل ما قاله الزجاج قال الفراء. (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قال الزّجّاج : هذه مخاطبة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ودلّ الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا. وقيل : إن هذه المقالة خوطب بها كل نبيّ ، لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها ، فيكون المعنى : وقلنا يا أيها الرسل خطابا بكل واحد على انفراده لاختلاف أزمنتهم. وقال ابن جرير : إن الخطاب لعيسى. وقال الفراء : هو كما تقول للرجل الواحد كفّوا عنا. والطيبات : ما يستطاب ويستلذّ ، وقيل : هي الحلال ، وقيل : هي ما جمع الوصفين المذكورين. ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي : عملا صالحا وهو ما كان موافقا للشرع ، ثم علّل هذا الأمر بقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) لا يخفى عليّ شيء منه ، وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء ، والمعنى : إن هذه ملتكم وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة ، وشريعة متّحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه ، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقيل : المعنى : إن هذا الذي تقدّم ذكره هو دينكم وملّتكم فالزموه ، على أن المراد بالأمة هنا الدين ، كما في قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (٣) ، ومنه قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة |
|
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع |
__________________
(١). القصص : ٤٣.
(٢). الأنبياء : ٩١.
(٣). الزخرف : ٢٢.