«قل كم لبثتم في الأرض» على الأمر ، والمعنى : قل يا محمد للكفار ، أو يكون أمرا للملك بسؤالهم ، أو التقدير : قولوا كم لبثتم ، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد ، والمراد الجماعة. وقرأ الباقون (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) على أن القائل هو الله عزوجل أو الملك (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) قرأ حمزة والكسائي «قل إن لبثتم» كما في الآية الأولى ، وقرأ الباقون (قال) على الخبر ، وقد تقدّم توجيه القراءتين ، أي : ما لبثتم في الأرض إلا لبثا قليلا (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا من العلم ، والجواب محذوف ، أي : لو كنتم تعلمون لعلمتم اليوم قلّة لبثكم في الأرض أو في القبور أو فيهما ، فكل ذلك قليل بالنسبة إلى لبثهم. ثم زاد سبحانه في توبيخهم فقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) الهمزة للتوبيخ والتقرير ، والفاء للعطف على مقدّر كما تقدّم بيانه في مواضع ، أي : ألم تعلموا شيئا فحسبتم ، وانتصاب عبثا على الحال ، أي : عابثين ، أو على العلة ، أي : للعبث. قال بالأوّل سيبويه وقطرب ، وبالثاني أبو عبيدة. وقال أيضا : يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية ، وجملة (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) معطوفة على «أنما خلقناكم عبثا» ، والعبث في اللغة : اللعب ، يقال : عبث يعبث عبثا فهو عابث ، أي : لاعب ، وأصله من قولهم عبثت الأقط : أي خلطته ، والمعنى : أفحسبتم أن خلقنا لكم للإهمال كما خلقت البهائم ولا ثواب ولا عقاب ، وأنكم إلينا لا ترجعون بالبعث والنشور فنجازيكم بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي «ترجعون» بفتح الفوقية وكسر الجيم مبنيا للفاعل ، وقرأ الباقون على البناء للمفعول. وقيل : إنه يجوز عطف وأنكم إلينا لا ترجعون على عبثا ، على معنى : إنما خلقناكم للعبث ولعدم الرجوع. ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : (فَتَعالَى اللهُ) أي : تنزّه عن الأولاد والشركاء أو عن أن يخلق شيئا عبثا ، أو عن جميع ذلك ، وهو (الْمَلِكُ) الذي يحقّ له الملك على الإطلاق (الْحَقُ) في جميع أفعاله وأقواله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فكيف لا يكون إلها وربا ، لما هو دون العرش الكريم من المخلوقات ، ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والخير منه ، أو باعتبار من استوى عليه ، كما يقال بيت كريم ؛ إذا كان ساكنوه كراما قرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل وأبان بن ثعلب الكريم بالرفع على أنه نعت لربّ ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه نعت للعرش. ثم زيف ما عليه أهل الشرك توبيخا لهم وتقريعا فقال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبده مع الله أو يعبده وحده ، وجملة (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) في محل نصب صفة لقوله إلها ، وهي صفة لازمة جيء بها للتأكيد ، كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) والبرهان : الحجة الواضحة والدليل الواضح ، وجواب الشرط قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وجملة لا برهان له به معترضة بين الشرط والجزاء ، كقولك : من أحسن إلى زيد لا أحقّ منه بالإحسان ، فالله مثيبه ، وقيل : إن جواب الشرط قوله : لا برهان له به على حذف فاء الجزاء ، كقول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) قرأ الحسن وقتادة بفتح «أن» على التعليل ، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، وقرأ الحسن «لا يفلح» بفتح الياء واللام مضارع فلح بمعنى أفلح. ثم ختم هذه السورة بتعليم
__________________
(١). الأنعام : ٣٨.