حمل الكلام على ما هو أعم من ذلك (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي العظيم الذي كلّ شيء دونه ، المتعالي عمّا يقوله المشركون ، أو المستعلي على كلّ شيء بقدرته وعظمته وقهره ، ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها ، بيّن أنه عالم بما يسرّونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره ، وأن ذلك لا يتفاوت عنده ، فقال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) فهو يعلم ما أسرّه الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر. وقوله : (مِنْكُمْ) متعلق بسواء على معنى : يستوي منكم من أسرّ ومن جهر ، أو سرّ من أسر وجهر من جهر (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مستتر في الظلمة الكائنة في الليل ، متوار عن الأعين ، يقال : خفي الشيء واستخفى ، أي : استتر وتوارى (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) قال الكسائي : سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب ، ومنه قول الشاعر (١) :
وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم |
|
ونحن خلعنا قيده فهو سارب |
أي ذهب. وقال القتبي : سارب بالنهار متصرّف في حوائجه بسرعة ، من قولهم : أسرب الماء ، قال الأصمعي : حلّ سربه ، أي : طريقته. وقال الزجّاج : معنى الآية الجاهر بنطقه ، والمضمر في نفسه ، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعا سويّ ، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب ؛ فالمستخفي المستتر ، والسارب البارز الظاهر (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الضمير في «له» راجع إلى من في قوله : من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف ؛ أي لكلّ من هؤلاء معقبات ، والمعقبات بالمتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ، ويكون بدلا منه ، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين. قال الزجّاج : المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض ، وإنما قال : معقبات مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ، ثم جمع معقبة على معقبات ، ذكر معناه الفراء ، وقيل : أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة. قال الجوهري : والتعقّب العود بعد البدء. قال الله تعالى : (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) وقرئ «معاقيب» جمع معقب (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي من بين يدي من له المعقبات. والمراد : إن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه ، وقيل : المراد بالمعقبات الأعمال ، ومعنى من بين يديه ومن خلفه : ما تقدم منها وما تأخر (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي من أجل أمر الله ، وقيل : يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب. قال الفرّاء : في هذا قولان : أحدهما : أنه على التقديم والتأخير ، تقديره : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثاني : أن كون الحفظة يحفظونه هو ممّا أمر الله به. قال الزجّاج : المعنى حفظهم إياه من أمر الله ، أي : ممّا أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله. قال ابن الأنباري : وفي هذا قول آخر. وهو أن «من» بمعنى الباء ، أي : يحفظونه بأمر الله ؛ وقيل : إن من بمعنى عن ، أي : يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله ، لا من عند أنفسهم ، كقوله : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) (٢) أي : عن جوع ؛ وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب ، وقيل : يحفظونه من الجن.
__________________
(١). هو الأخنس بن شهاب التغلبي.
(٢). قريش : ٤.