قال الزجاج : والمعنى أنه خالق كلّ شيء مما يصح أن يكون مخلوقا ، ترى أنه تعالى خالق كل شيء وهو غير مخلوق (وَهُوَ الْواحِدُ) أي المتفرّد بالربوبية (الْقَهَّارُ) لما عداه ، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب ، ثم ضرب سبحانه مثلا آخر للحق وذويه ، وللباطل ومنتحليه فقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من جهتها والتنكير للتكثير أو للنوعية (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) جمع واد ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما. قال أبو علي الفارسي : لا نعلم فاعلا جمع على أفعلة إلا هذا ، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة ، كما أن فعيلا حمل على فاعل ، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف ، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر قال : وفي قوله : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) توسع ، أي : سال ماؤها ، قال : ومعنى (بِقَدَرِها) بقدر مائها ؛ لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها. قال الواحدي : والقدر مبلغ الشيء ، والمعنى : بقدرها من الماء ، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر ، وقال في الكشاف : بقدرها بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. قال ابن الأنباري : شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر ، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر ، وشبه الأودية بالقلوب ؛ إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) الزبد : هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ، ويقال له الغثاء والرغوة ، والرابي : العالي المرتفع فوق الماء. قال الزجّاج : هو الطافي فوق الماء ، وقال غيره : هو الزائد بسبب انتفاخه ، من ربا يربو إذا زاد. والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء ، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح ، فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ. وقد تمّ المثل الأوّل ، ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) من لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، أو للتبعيض بمعنى : وبعضه زبد مثله ، والضمير للناس ، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره ، هذا على قراءة يوقدون بالتحتية ، وبها قرأ حميد وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وحفص. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. والمعنى : ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجمّلون كالذهب والفضة (أَوْ مَتاعٍ) أي : أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتّخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص (زَبَدٌ مِثْلُهُ) المراد بالزبد هنا الخبث ؛ فإنه يعلو فوق ما أذنب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء ، فالضمير في مثله يعود إلى (زَبَداً رابِياً) وارتفاع زبد على الابتداء وخبره مما يوقدون (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل ، ثم شرع في تقسيم المثل فقال : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) يقال : جفأ الوادي بالهمز جفاء ؛ إذا رمى بالقذر والزبد. قال الفرّاء : الجفاء : الرمي ، يقال : جفأ الوادي غثاء جفاء : إذا رمى به ، والجفاء بمنزلة الغثاء. وكذا قال أبو عمرو بن العلاء ، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا. قال أبو عبيدة : يقال أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها ، وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته. قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ؛ لأنه كان يأكل الفأر. واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة