أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدا رابيا فوقه ، وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة ، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب ، فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثا مرتفعا فوقها (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) منهما وهو الماء الصافي ، والذائب الخالص من الخبث (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي يثبت فيها ، أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به ، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة ، وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل ، يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه. فهذا مثل الباطل ؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه ، وهو مثل الحق. قال الزجّاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعا بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلا ضربه الله للقرآن (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب ؛ لكمال العناية بعباده واللطف بهم ، وهذا تأكيد لقوله : كذلك يضرب الله الحق والباطل ، ثم بيّن سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده ، فقال فيمن ضرب له مثل الحق (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه ، والحسنى صفة موصوف محذوف ، أي : المثوبة الحسنى وهي الجنة ، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) لدعوته إلى ما دعاهم إليه ، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية ، وهي (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من أصناف الأموال التي يتملّكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي مثل ما في الأرض جميعا كائنا معه ومنضمّا إليه (لَافْتَدَوْا بِهِ) أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله. والمعنى : ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم ، ثم بيّن الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال : (أُولئِكَ) يعني الذين لم يستجيبوا (لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) قال الزجّاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه ؛ وقيل : هو أن يحاسب الرجل بذنبه كلّه لا يغفر منه شيء (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي مرجعهم إليها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي المستقرّ الذي يستقرّون فيه. والمخصوص بالذم محذوف.
وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال : خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر. وأخرج أبو الشيخ عن الضحّاك قال : الخوف ما يخاف من الصواعق والطمع : الغيث. وأخرج عبد بن حميد وابن