آخره ، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله : (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (١) إلا الكسائي فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب : واد النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام (قالَتْ نَمْلَةٌ) هذا جواب إذا ، كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي ، فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب ، والمساكن : هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها.
قيل : وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى ، بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. وردّ هذا أبو حيان فقال : إلحاق التاء في قالت ، لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصحّ أن يقال في المذكر قالت ، لأن نملة ، وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ، ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة (٢) ، ولا بالتعرض لاسم النملة ، ولما ذكر من القصص الموضوعة ، والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان «نملة» والنمل بضم الميم وفتح النون ، بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) الحطم : الكسر ، يقال حطمته حطما : أي كسرته كسرا ، وتحطم تكسر ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب : لا أرينك هاهنا ، ويجوز أن يكون بدلا من الأمر ، ويحتمل أن يكون جوابا للأمر. قال أبو حيان : أما تخريجه على جواب الأمر ، فلا يكون إلا على قراءة الأعمش ، «لا يحطمكم» بالجزم بدون نون التوكيد ، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر. قال سيبويه : وهو قليل في الشعر ، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما. وقرأ أبيّ «ادخلوا مساكنكنّ» وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني «لا يحطّمنّكم» بضمّ الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد ، وجملة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل نصب على الحال من فاعل يحطمنكم ، أي : لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم ، وقيل : إن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها ، وهو بعيد (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) قرأ ابن السميقع «ضحكا» وعلى قراءة الجمهور يكون ضاحكا : حالا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم ، وقيل : هي حال مقدّرة لأن التبسم أوّل الضحك ، وقيل : لما كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينا له ، وقيل : إن ضحك الأنبياء هو التبسم لا غير ، وعلى قراءة ابن السميقع يكون ضحكا : مصدرا منصوبا بفعل محذوف ، أو في موضع الحال ، وكان ضحك سليمان تعجبا من قولها ، وفهمها ، واهتدائها إلى تحذير النمل (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) وقد تقدم بيان معنى أوزعني قريبا في قوله : «فهم يوزعون» قال في الكشاف : وحقيقة أوزعني : اجعلني أزع شكر نعمك عندي وأكفه ، وأرتبطه لا ينفلت
__________________
(١). الفجر : ٩.
(٢). كان يغني عن ذلك كله الرجوع إلى كتب اللغة وفيها : النملة : واحدة النمل للذكر والأنثى.