إنهم جميعا قالوا تارة إنه إفك ، وتارة إنه سحر ، والأوّل أولى (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي : ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) يدعوهم إلى الحقّ وينذرهم بالعذاب ، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ، ولا شبه يتشبثون بها. قال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمّد صلىاللهعليهوسلم. قال الفرّاء : أي من أين كذبوك ، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه؟ ثم خوّفهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم ، وعاقبة من كان قبلهم فقال : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من القرون الخالية (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي : ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة ، وكثرة المال ، وطول العمر فأهلكهم الله ، كعاد وثمود وأمثالهم. والمعشار : هو العشر. قال الجوهري : معشار الشيء عشره. وقيل المعشار : عشر العشر ، والأوّل أولى. وقيل إن المعنى : ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البيّنات والهدى. وقيل ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم ، وقيل : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان ، والأوّل أولى. وقيل : المعشار عشر العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءا من ألف جزء. قال الماوردي : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل. قلت : مراعاة المبالغة في القليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي ، وقوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) عطف على (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) على طريقة التفسير ، كقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) (١) الآية ، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام ، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم ، فمعناه : كذبوا الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، والمعجزات الواضحة ، وتكذيب الرسل أخص منه ، وإن كان مستلزما فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة ، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك ، قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأهلكناهم فكيف كان نكير ، والنكير اسم بمعنى الإنكار. ثم أمر سبحانه رسوله أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي : أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة ، وهي : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) هذا تفسير للخصلة الواحدة ، أو بدل منها ، أي : هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، لأن الاجتماع يشوّش الفكر ، وليس المراد القيام على الرجلين ، بل المراد القيام بطلب الحقّ وإصداق الفكر فيه ، كما يقال قام فلان بأمر كذا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر النبي وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمّدا مجنون ، فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة ، وهي أن تقوموا لله ، وفي ذاته مجتمعين ، فيقول الرجل لصاحبه : هلمّ فلنتصادق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ، أي : جنون أو جرّبنا عليه كذبا ، ثم ينفرد كلّ واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر ، فإن في ذلك ما يدل على أن محمّدا صلىاللهعليهوسلم صادق وأنه رسول من عند الله ، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون ، وهو معنى قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
__________________
(١). القمر : ٩.