عَذابٍ شَدِيدٍ) أي : ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة ، وقيل إن جملة : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر ، والتأمل بأن هذا الأمر العظيم والدعوى ، لا يعرّض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه ، وما ينسب إليه من الكذب ، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا ، فوجب أن يصدّقوه في دعواه ، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب ، ولا قد جرّبوا عليه كذبا مدّة عمره وعمرهم. وقيل : يجوز أن تكون (ما) في (ما بِصاحِبِكُمْ) استفهامية ، أي : ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون ، وقيل المراد بقوله : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) هي : لا إله إلّا الله كذا قال مجاهد والسدّي. وقيل : القرآن ؛ لأنه يجمع المواعظ كلها ، والأولى ما ذكرناه أوّلا. وقال الزجاج : إن (أَنْ) في قوله : (أَنْ تَقُومُوا) في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وقال السدّي : معنى مثنى وفرادى : منفردا برأيه ، ومشاورا لغيره. وقال القتبي مناظرا مع عشيرته ، ومفكرا في نفسه. وقيل المثنى : عمل النهار ، والفرادى : عمل الليل ، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول وأقلّ جدواه. واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) وعلى هذا تكون جملة : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) مستأنفة كما قدّمنا ، وقيل : ليس بوقف ، لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذبا ، أو رأيتم منه جنة ، أو في أحواله من فساد. ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ، ويرتفع الريب فقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) أي : ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتكموه ، والمراد نفي السؤال بالكلية ، كما يقول القائل : ما أملكه في هذا فقد وهبته لك ، يريد أنه لا ملك له فيه أصلا ، ومثل هذه الآية قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) وقوله : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢). ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي : ما أجري إلا على الله لا على غيره (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : مطلع لا يغيب عنه منه شيء (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) القذف : الرمي بالسهم ، والحصى ، والكلام. قال الكلبي : يرمي على معنى يأتي به ، وقال مقاتل : يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي ، أي : يلقيه إلى أنبيائه. وقال قتادة (بِالْحَقِ) أي : بالوحي ، والمعنى : أنه يبين الحجة ، ويظهرها للناس على ألسن رسله ، وقيل : يرمي الباطل بالحق فيدمغه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قرأ الجمهور برفع (عَلَّامُ) على أنه خبر ثان لأنّ ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من الضمير في يقذف ، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج : الرفع من وجهين على الموضع ، لأن الموضع موضع رفع ، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي وعيسى بن عمرو بن أبي إسحاق بالنصب نعتا لاسم إنّ ؛ أو بدلا منه ، أو على المدح. قال الفراء : والرفع في مثل هذا أكثر كقوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٣) ، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين ، وهو جمع غيب ، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفي جدّا (قُلْ جاءَ
__________________
(١). الشورى : ٢٣.
(٢). الفرقان : ٥٧.
(٣). ص : ٦٤.