من التوحيد في حال من الأحوال إلا كانوا عنها معرضين. وظاهره يشمل الآيات التنزيلية ، والآيات التكوينية ، وجملة : (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) في محلّ نصب على الحال كما مرّ تقريره في غير موضع. والمراد بالإعراض : عدم الالتفات إليها ، وترك النظر الصحيح فيها ، وهذه الآية متعلقة بقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : إذا جاءتهم الرسل كذّبوا ، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي : تصدّقوا على الفقراء مما أعطاكم الله ، وأنعم به عليكم من الأموال ، قال الحسن : يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل : إن المؤمنين قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (١) فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) استهزاء بهم ، وتهكما بقولهم : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) أي : من لو يشاء الله رزقه ، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون : إن الرّزّاق هو الله ، وأنه يغني من يشاء ، ويفقر من يشاء فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله ، وهذا غلط منهم ، ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإنّ الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا ، وأمر الغنيّ أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقولهم : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله ، أو إنكار جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا. وقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من تمام كلام الكفار. والمعنى : أنكم أيها المسلمون في سؤال المال ، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور. وقيل هو من كلام الله سبحانه جوابا على هذه المقالة التي قالها الكفار. وقال القشيري والماوردي : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة. وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع ، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدونا به من العذاب والقيامة ، والمصير إلى الجنة أو النار. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولونه وتعدونا به. قالوا ذلك استهزاء منهم وسخرية بالمؤمنين. ومقصودهم إنكار ذلك بالمرّة ، ونفي تحققه وجحد وقوعه ، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهي نفخة إسرافيل في الصور (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي : يختصمون في ذات بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا ، وهذه هي النفخة الأولى ، وهي نفخة الصعق.
وقد اختلف القراء في يخصمون ، فقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم ، والمعنى : يخصم بعضهم بعضا ، فالمفعول محذوف. وقرأ أبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد ، وقرأ نافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء ، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد. والأصل
__________________
(١). الأنعام : ١٣٦.