ذلك الفراء كما يقال : فمنها أكلهم ومنها شربهم ومعنى : (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) ما يأكلونه من لحمها ، ومن للتبعيض (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها ، والأكل منها ، وهي ما ينتفعون به من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها ، وكذلك الحمل عليها والحراثة بها (وَمَشارِبُ) أي : ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله على هذه النعم ، ويوحدونه ، ويخصونه بالعبادة. ثم ذكر سبحانه جهلهم ، واغترارهم ، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شيء ، ولم يحصل لهم منها فائدة ، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي : رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب أو دهمهم من الأمور ، وجملة : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه من نفعها ، وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي : والكفار جند للأصنام محضرون ، أي : يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن : يمنعون منهم ويدفعون عنهم ، وقال قتادة : أي يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج : ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل : إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإن النهي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن التأثر بما يصدر منهم هو من باب «لا أرينّك هاهنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه. لا نهي نفسه عن الرؤية ، وهذا بعيد والأوّل أولى والكلام من باب التسلية كما ذكرناه ، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو قولهم : إنه ساحر وشاعر ومجنون ، وجملة (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) لتعليل ما تقدّم من النهي. فإن علمه سبحانه بما يظهرون ويضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافيا أو باديا ، سرّا أو جهرا ، مظهرا أو مضمرا. وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات ، وجملة (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله ، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية ؛ مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك ؛ من بعث الأجسام وردّها كما كانت ، والإنسان المذكور في الآية ؛ المراد به جنس الإنسان كما في قوله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (١) ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل : إنه عبد الله بن أبيّ ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن : هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير : هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة ومجاهد : هو أبيّ بن خلف الجمحي ، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببا للنزول فمعنى الآية خطاب الإنسان من حيث هو ، لا إنسان معين ، ويدخل من كان سببا للنزول تحت جنس الإنسان دخولا أوّليا ، والنطفة هي اليسير من الماء ، وقد تقدّم معناها (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام ، وإذا هي الفجائية ، أي : ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء ، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه ، والخصيم الشديد
__________________
(١). مريم : ٦١.