خلقه إلى نفسه تكريما له وتشريفا ، مع أنه سبحانه خالق كلّ شيء كما أضاف إلى نفسه الروح ، والبيت ، والناقة ، والمساجد. قال مجاهد : اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازا كقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ). وقيل : أراد باليد القدرة ، يقال : ما لي بهذا الأمر يد ، وما لي به يدان ، أي قدرة ، ومنه قول الشاعر :
تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد |
|
ولا للجبال الراسيات يدان |
وقيل : التثنية في اليد للدلالة على أنها ليست بمعنى القوّة والقدرة ، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته سبحانه ، و «ما» في قوله : (لِما خَلَقْتُ) هي المصدرية أو الموصولة. وقرأ الجحدري «لما» بالتشديد مع فتح اللام على أنها ظرف بمعنى : حين ، كما قال أبو عليّ الفارسي. وقرئ «بيدي» على الإفراد (أَسْتَكْبَرْتَ) قرأ الجمهور بهمزة الاستفهام ، وهو استفهام توبيخ وتقريع و (أَمْ) متصلة. وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بألف وصل ، ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر :
تروح من الحيّ أم تبتكر
وقول الآخر :
بسبع رمين الجمر أم بثمانيا
ويحتمل أن يكون خبرا محضا من غير إرادة للاستفهام فتكون (أَمْ) منقطعة ، والمعنى : استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل (كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي : المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله ؛ المتعالين عن ذلك ، وقيل المعنى : استكبرت عن السجود الآن ، أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك ، وجملة : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ادّعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم ، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن ، ثم علل ما ادّعاه من كونه خيرا منه بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين ، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغني عنها طردت ، وأيضا فالطين يستولي على النار فيطفئها ، وأيضا فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض ، وعلى كلّ حال فقد شرّف آدم بشرف وكرّم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر ، وذلك أن الله خلقه بيديه ، ونفخ فيه من روحه ، والجواهر في أنفسها متجانسة ، وإنما تشرف بعارض من عوارضها ، وجملة (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) مستأنفة كالتي قبلها : أي : فاخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة ، ثم علل أمره بالخروج بقوله : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي : مرجوم بالكواكب مطرود من كلّ خير (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي : طردي لك عن الرحمة وإبعادي لك منها ، ويوم الدين : يوم الجزاء ، فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرّة له دائمة عليه ما دامت الدنيا ، ثم في الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق ، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة ، بل هو ملعون أبدا ، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه