يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ، ودخلوا فيه. قال مجاهد : من بعد ما أسلم الناس. قال : وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة : هم اليهود والنصارى ، ومحاجتهم قولهم : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب ، وأنهم أولاد الأنبياء ، وكان المشركون يقولون : أيّ الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ فنزلت هذه الآية ، والموصول : مبتدأ ، وخبره : الجملة بعده وهي (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه ، يقال : دحضت حجته دحوضا : بطلت ، والإدحاض : الإزلاق ، ومكان دحض : أي زلق ، ودحضت رجله : زلقت. وقيل : الضمير في له راجع إلى الله. وقيل : راجع إلى محمد صلىاللهعليهوسلم. والأوّل أولى (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي : غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) المراد بالكتاب : الجنس فيشمل جميع الكتب المنزّلة على الرسل. وقيل : المراد به القرآن خاصة ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي : ملتبسا بالحق ، وهو الصدق (وَ) المراد ب (الْمِيزانَ) العدل ، كذا قال أكثر المفسرين ، قالوا وسمى العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق. وقيل : الميزان ما بين في الكتب المنزّلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به. وقيل : هو الجزاء على الطاعة بالثواب ، وعلى المعصية بالعقاب. وقيل : إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء ، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس كما في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) وقيل : هو محمد صلىاللهعليهوسلم (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي : أيّ شيء يجعلك داريا بها ، عالما بوقتها لعلها شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو ذات قرب. وقال قريب ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي. قال الزجاج : المعنى لعلّ البعث أو لعلّ مجيء الساعة قريب. وقال الكسائي : قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) ومنه قول الشاعر :
وكنّا قريبا والدّيار بعيدة |
|
فلمّا وصلنا نصب أعينهم غبنا |
قيل : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين ، فقالوا متى تكون الساعة؟ تكذيبا لها فأنزل الله الآية ، ويدلّ على هذا قوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء منهم بها ، وتكذيبا بمجيئها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي : خائفون وجلون من مجيئها. قال مقاتل : لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه. وقال الزجاج : لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي : أنها آتية لا ريب فيها ، ومثل هذا قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٣). ثم بين ضلال الممارين فيها فقال : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة ، من المماراة وهي : المخاصمة والمجادلة ، أو من المرية : وهي الشك والريبة (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم ، ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة.
__________________
(١). الحديد : ٢٥.
(٢). الأعراف : ٥٦.
(٣). المؤمنون : ٦٠.