القرطبي : لطيف بهم في العرض والمحاسبة ، وقيل : غير ذلك. والمعنى : أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ، ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا ، وهو معنى قوله : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) منهم كيف يشاء ، فيوسع على هذا ، ويضيق على هذا (وَهُوَ الْقَوِيُ) العظيم القوّة الباهرة القادرة (الْعَزِيزُ) الذي يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) الحرث في اللغة : الكسب ، يقال هو يحرث لعياله ويحترث : أي يكتسب. ومنه سمي الرجل حارثا ، وأصل معنى الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، فأطلق على ثمرات أعمال وفوائدها بطريق الاستعارة : والمعنى : من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وقيل : معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها ، وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا وقسم له في قضائنا. قال قتادة : معنى (نُؤْتِهِ مِنْها) نقدّر له ما قسم له كما قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) (١). وقال قتادة أيضا : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر ، وهو تخصيص بغير مخصص. ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار ، والهمزة : لاستفهام التقرير والتقريع ، وضمير شرعوا عائد إلى الشركاء ، وضمير لهم إلى الكفار ، وقيل العكس ، والأوّل أولى. ومعنى (ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) ما لم يأذن به من الشرك والمعاصي (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وهي تأخير عذابهم حيث قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) (٢) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة ، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين ، أو إلى المشركين وشركائهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : المشركين والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ مسلم ، والأعرج ، وابن هرمز بفتحها عطفا على كلمة الفصل (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) أي خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات ، وذلك الخوف والوجل يوم القيامة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج ، أي : وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا ، والجملة في محل نصب على الحال. ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) روضات جمع روضة. قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين الواو ، ولغة هذيل فتحها ، والروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة ، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم ، وروضة الجنة : أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من صنوف النعم وأنواع المستلذّات ، والعامل في عند ربهم يشاءون ، أو العامل في روضات الجنات وهو الاستقرار ،
__________________
(١). الإسراء : ١٨.
(٢). القمر : ٤٦.