الحرج من حكم الكتاب والسنة ، ولم يسلموا بذلك ولا أذعنوا له ، وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكؤون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة ، وهي أنهم يقولون : إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله ، وذلك لأن أذهانهم قد تصوّرت من يقتدون به تصورا عظيما بسبب تقدّم العصر وكثرة الأتباع ، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم ، فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدرا ، وأقدم عصرا من صاحبكم ، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء ، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصرا وأجلّ قدرا ، فإن أبيتم ذلك ، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر ، فإن أبيتم ذلك ، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجلّ خطرا وأكثر أتباعا وأقدم عصرا ، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم ورسول الله إلينا وإليكم فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر ، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت ، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا تحريف ولا تصحيف ، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه ، فتعالوا لنأخذ الحقّ من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه ، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا سمع ولا طاعة ، إما بلسان المقال أو بلسان الحال ، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته «أدب الطلب ومنتهى الأرب» فارجع إليه إن رمت أن تجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع لك سحائب التقليد (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) وذلك الانتقام : ما أوقعه الله بقوم نوح ، وعاد ، وثمود (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من تلك الأمم ، فإن آثارهم موجودة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أي : واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراء : مصدر نعت به للمبالغة ، وهو يستعمل للواحد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث. قال الجوهري : وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء ، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل ، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي : خلقني (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق ، والاستثناء : إما منقطع ، أي : لكن الذي فطرني ، أو : متصل من عموم ما ، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، وإخباره بأنه سيهديه جزما لثقته بالله سبحانه ، وقوّة يقينه (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) الضمير في جعلها عائد إلى قوله : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهي بمعنى التوحيد كأنه قال : وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذرّيته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه ، وفاعل جعلها إبراهيم ، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) (١) الآية ، وقيل : الفاعل هو الله عزوجل ، أي : وجعل الله عزوجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله ، لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة :
__________________
(١). البقرة : ١٣٢.