به (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي : وفي أنفسكم آيات تدلّ على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرّسل ، فإنه خلقهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن ينفخ فيه الروح ، ثم تختلف بعد ذلك صورهم وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم ، ثم نقش خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم ودم وعظم وأعضاء وحواس ومجاري ومنافس. ومعنى (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا تنظرون بعين البصيرة ، فتستدلون بذلك على الخالق الرزّاق المتفرّد بالألوهية ، وأنه لا شريك له ولا ضدّ ولا ندّ ، وأن وعده الحقّ ، وقوله الحقّ وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحقّ الّذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه ، وقيل : المراد بالأنفس الأرواح ، أي : وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي : سبب رزقكم ، وهو المطر فإنه سبب الأرزاق. قال سعيد ابن جبير والضحاك : الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج. وقيل : المراد بالسماء السحاب ، أي : وفي السحاب رزقكم ، وقيل : المراد بالسماء المطر ، وسمّاه سماء لأنه ينزل من جهتها ، ومنه قول الشاعر (١) :
إذا نزل السّماء بأرض قوم |
|
رعيناه وإن كانوا غضابا |
وقال ابن كيسان : يعني وعلى ربّ السماء رزقكم ، قال : ونظيره : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٢) وهو بعيد. وقال سفيان الثوري : أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل : المعنى : وفي السماء تقدير رزقكم. قرأ الجمهور (رِزْقُكُمْ) بالإفراد ، وقرأ يعقوب وابن محيصن ومجاهد «وأرزاقكم» (٣) بالجمع. (وَما تُوعَدُونَ) من الجنة والنار ، قاله مجاهد. قال عطاء : من الثواب والعقاب ، وقال الكلبي : من الخير والشرّ ، قال ابن سيرين : ما توعدون من أمر الساعة ، وبه قال الربيع. والأولى الحمل على ما هو أعمّ من هذه الأقوال ، فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء ، والقضاء والقدر ينزل منها ، والجنة والنار فيها. ثم أقسم سبحانه بنفسه فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) أي : ما أخبركم به في هذه الآيات. قال الزجاج : هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات. قال الكلبي : يعني ما قصّ في الكتاب. وقال مقاتل : يعني من أمر الساعة. وقيل : إن (ما) في قوله : (وَما تُوعَدُونَ) مبتدأ وخبره (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) ، فيكون الضمير ل «ما». ثم قال سبحانه : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) قرأ الجمهور بنصب (مِثْلَ) على تقدير : كمثل نطقكم ، و «ما» زائدة ، كذا قال بعض الكوفيين إنه منصوب ينزع الخافض. وقال الزجاج والفراء : يجوز أن ينتصب على التوكيد ، أي : لحقّ حقا مثل نطقكم. وقال المازني : إن (مِثْلَ) مع (ما) بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح. وقال سيبويه : هو مبنيّ لإضافته إلى غير متمكّن ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر والأعمش مثل بالرفع على أنه
__________________
(١). هو معوّد الحكماء معاوية بن مالك.
(٢). هود : ٦.
(٣). في تفسير القرطبي (١٧ / ٤١) : رازقكم.